تابعت الضجة التى أثارها مشهد حمل مراسلة «أون تى فى» لمياء حمدين، لطفلها أثناء أداء عملها فى تصوير تقرير تليفزيونى لقناتها. وتعجبت من كل ردود الفعل التى هاجمتها واتهمتها بالتقصير فى حق ابنها، كما تعجبت من اعتذارها وهى تبرر فعلتها بأن موعد حضانة الابن قد مضى وكان عليها اصطحابه رغم وجود عمل لديها. ولها ولمهاجميها أحكى بعضاً من مسيرة حياة أراها الآن مصدر فخرى.
أتذكر البدايات فى العمل وصعوباتها وأنا حديثة العهد بالأمومة فى ظل وحدة فرضها رحيل الأب والأم عن الحياة منذ صباى، كان لا بد من البحث عن حضانة ملائمة كانت تلتهم نصف دخلى وكان لا بد من تنظيم الوقت والجرى فى كل وقت لتلبية طلبات البيت والزوج والصغير ورعايته على أكمل وجه. لم يكن هناك وقت لنوم أو راحة إلا بما تجود به الأيام. كنت أدرك أنى وزوجى فى بداية حياة تحتاج كلينا يداً بيد. وكنت أدرك أننى لست الشخصية التى يمكنها العيش هانئة بعيداً عن عشقها للكتابة والإبداع المرئى. وهكذا كان ابنى رفيقى فى الكثير من جولات العمل ومهامه رغم صعوبتها. كان يشعر بالإثارة تارة وبالضيق تارة أخرى، وكنت أستشعر الذنب فى كثير من أوقات وجوده معى لأنها أوقات يفترض فيها الراحة له. ولعل تجربتى الأولى مع ابنى كانت سبباً فى تأخيرى فكرة إنجاب طفلتى الثانية لمدة ثمانى سنوات. حسبتها كأم لا تسعى لكثرة التناسل والولد، لكن لترك نبت صالح للمجتمع تتباهى به ويمنحها الكرم من رب العالمين. كنت كلما سألنى أحدهم «لماذا لا أخاوى ابنى؟»، أجيب قائلة: «وقتى مقسم بين بيتى والعناية به، وزوجى ورعايته، وابنى ودراسته ورياضته وساعات لهوه من جانب، وعملى المتطلب للكثير من المجهود البدنى والفكرى والعصبى من جانب آخر، فكيف لى بطفل ثان؟». لكن شاءت أقدار الله أن تأتى ابنتى للحياة فأكرر معها المسيرة ذاتها فى وقت تضاعف فيه مجهود العمل بحكم ما حققته من نجاح فيه.
أتذكر الآن مقعدها الدائم بجوارى فى السيارة واحتياجاتها -التى ما مللت تلبيتها- فى عز عملى. كثيراً ما قدت سيارتى عائدة من عملى وهى فى حضنى نائمة، أقود بيد وأحتضنها بالأخرى وأنا أضغط ببطانيتها على جسدها النحيل وهى بعد فى الشهور الأولى من عمرها تستشعر برودة الجو، بينما أفتح عينى بصعوبة. كثيراً ما حملتها على يدى أثناء لقائى بشخصيات عامة فى عملى وداعبوها ولاطفوها. وكثيراً ما اضطررت لاصطحاب ابنى وابنتى معى فى السيارة لمقر عملى بعد إنهاء تمارين رياضية خاصة بهما. نعم كان المجهود مضاعفاً لكن كانت النتيجة مبهرة. لقد شبّا صديقين لى وعلما المجهود المبذول من جانبى لرعايتهما بنفسى، وأدركا صعوبة تحقيق الهدف إلا ببذل العرق. وكلما نجحت فى الحياة شعرا أنهما رفيقا نجاح وأننى أستحق ما تمنحه لى الأقدار. ليس هذا فحسب بل تفتحت مداركهما لخبرات لم يكن من الممكن حصولهما عليها لو ظلا حبيسى بيت بصحبة خادمة لم أكن لأثق فى تركهما معها.
لم تكن أيام سهلة ولم تكن مواقف عابرة، لكنها كانت مسيرة حياة لأم تشبه ملايين الأمهات الساعيات لحصد الطموح والدخل المادى المناسب. لا أختلف فيها عن الفلاحة التى تضع ابنها على كتفها وتسير به لعملها فى حقل على بعد عدة كيلومترات، ولا عن عاملة فى مصنع تصطحب وحيدها لتضعه بجوارها لحين انتهائها من العمل، ولا عن أى من تلك الصور التى أراها شرفاً لا يضاهيه شرف لأى سيدة عاملة أصرت على النجاح فى واجبها كأم وواجبها كعاملة. لذا فليس أمامى إلا القول لـ«لمياء» وكل من على شاكلتها من نساء مصر المثابرات المكافحات من أجل بناء مستقبل الولد ورخاء البيت، ارفعن رؤوسكن بفخر وابذلن قصارى الجهد واسطرن فى تاريخكن المزيد فما أحلى الكفاح أدام الله علينا نعمته.