لا تكمن عظمة دعوة إبراهيم فقط فى العقائد التى آمنت بها ودعت إليها، إنما أيضاً فى منهج إحكام قيادة العقل وطريقة البحث عن الحقيقة.
كيف؟
من أكثر الأمور الجاذبة لى فى إبراهيم (عليه السلام) أنه صاحب عقل منضبط، لا يؤمن إلا بدليل من الوقائع الخارجية التجريبية، مثل حالة: «.. خُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً» (البقرة: 260)، أو بدليل من الاستدلال العقلى المسنود بالتدبر فى الظواهر الكونية: «وَكَذَلِكَ نُرِى إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ» (الأنعام: 75)، أو بحجة عقلية خالصة: (قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلَا يَضُرُّكُمْ. أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ» (الأنبياء: 66 - 67).
أضف إلى ذلك قدرته على إبطال مغالطات أصحاب العقول العنكبوتية (ومثلهم كثير فى عصرنا)، من أقصر طريق وفى كلمات قليلة. وهذا نجده، علاوة على ما سبق من حججه ضد قومه، فى ذلك النقاش الذى دار بينه وبين ذلك الملك الواهم:
«ألَمْ تَرَ إِلَى الَّذِى حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِى رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّى الَّذِى يُحْيِى وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِى وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِى بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِى كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» (البقرة: 258).
انظر مرة أخرى إلى الفرق بين طرق الحِجاج التى يوظفها إبراهيم ضد المغالطين، وطرق الحجاج التى ينتهجها المتحدثون زوراً باسم الحقيقة الإلهية فى عصرنا، انظر كيف يُعمل إبراهيم أدوات ومناهج الاستدلال العقلى والتجريبى، وكيف يُعمل الواهمون فى عصرنا أدوات ومناهج النقل غير الدقيق والحفظ والتسليم المطلق بأقوال السادة قادة «الحقيقة المطلقة»!
لقد رفض إبراهيم النقل والتقليد وهو فى ريعان الشباب، وحاج قومه حجاجاً عقلياً خالصاً، بينما ردوا عليه بحجاج نقلى موروث، إبراهيم يستند إلى البرهان العقلى وهم يستندون إلى البرهان النقلى، انظر قصته مرة أخرى من «كادر» مختلف يلتقطه القصص القرآنى: «إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِى أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ. قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ. قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِى ضَلَالٍ مُبِينٍ. قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ. قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِى فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ. وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ. فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ. قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ. قَالُوا سَمِعْنَا فَتى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ. قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ. قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ. قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ. فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ. ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ. قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلَا يَضُرُّكُمْ. أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ» (الأنبياء: 52 - 67).
وهكذا فإن «منهج» أبى الأنبياء منهج منضبط. ومن أسف فإن الكثيرين يخلطون بين المنهج والمذهب، أو بين المنهج والعقيدة، ويقع فى هذا عدد غير قليل من العلماء والمفكرين أنفسهم! لذا لا بد أن نحدد المعنى الذى نقصده بالمنهج Method. المنهج عبارة عن «مجموعة من القواعد والفرضيات والإجراءات والأمثلة لتحديد مدى وحدود الموضوع وإنشاء طرق مقبولة للعمل ضمن هذه الحدود للوصول إلى الحقيقة truth»، أو بعبارة أبسط: «المنهج هو الطريقة التى نسير عليها وفق قواعد ومعايير للانتقال من المجهول إلى المعلوم ومن الشك إلى المعرفة». يقول ديكارت: إن ما أقصده بكلمة «المنهج» هو تلك القواعد التى يُعَوَّل عليها ويسهل تطبيقها، وأنه فى حال اتباع هذه القواعد بواسطة الفرد على نحو صحيح، فإن الفرد لن يقبل ما هو زائف على أنه صحيح، ولن يبدد جهوده الذهنية، بل سينجح فى زيادة معارفه تدريجياً وباستمرار حتى يصل إلى فهم صحيح لكل شىء فى نطاق قدرته.
فالمنهج ببساطة هو الوسيلة، هو الطريقة، هو الخطوات التى يجب أن يتبعها التفكير، هو القواعد التى يجب اتباعها للوصول إلى نتيجة صحيحة. إنه أسلوب الاستدلال، هو السنارة وليس السمكة، بل هو أكثر من السنارة هو الفن أو الطريقة التى تستخدم بها السنارة. ليس هو الطعام الجاهز الذى تأكله، ولا المواد التى صنع منها الطعام، لكنه «طريقة» الصنع نفسها. ليس هو السيارة، لكنه فن القيادة. معك سيارة رائعة ومع صديقك سيارة رائعة أيضاً، أنت تقود بفن وقواعد وخريطة سليمة للطريق فى ذهنك فتصل إلى هدفك، وصديقك يقود برعونة أو بخريطة أو قواعد خاطئة فيضل الطريق!
والخلاصة إذا أردنا أن نوصّف «منهج» أبى الأنبياء نجده قائماً على شك منهجى فى البداية، ثم استدلال عقلى محكم مستند إلى ظواهر كونية تارة، ومستند إلى دليل من (وقائع تجريبية) تارة أخرى، ومستند إلى حجة عقلية برهانية تارة ثالثة، وفى كل مرة الوحى حاضر مثل الضوء الذى ينير الطريق أمام العقل والحواس والبصيرة. لكل هذا لن ندخل عصراً دينياً جديداً بدون إصلاح مناهج التفكير لإحكام قيادة العقل نحو الصواب.