لست من هؤلاء الذين يتوقعون أى جديد مع كل تعديل وزارى، سواء كان التعديل محدوداً أو شاملاً.. لأن الأمر كله مرهون بجوهر السياسة العامة للدولة التى ينفّذها الوزير، ورغم ذلك تظل هناك مؤشرات إيجابية ونقاط مضيئة فى التغيير الوزارى الأخير، أهم هذه المؤشرات هو اختيار باحث أكاديمى وفلاح وموظف تنفيذى فى الوقت ذاته، لتولى حقيبة وزارة الزراعة، بعد أن كادت السياسة التى طبقها الوزير السابق عادل البلتاجى، تدمّر الزراعة بكاملها فى هذا البلد، وتقضى تماماً على مستودع الخبرات البحثية والحقلية فى هذه الوزارة العريقة، والحقيقة أن الوزير السابق كان شديد الوضوح منذ الوهلة الأولى لتسلم عمله فى الإعلان عن انتمائه الأصيل إلى المعسكر الرأسمالى الغربى فى التعامل مع القطاع الزراعى بدول العالم الثالث، وقد دأب هذا المعسكر منذ حوالى 40 عاماً على إعادة هيكلة هذا القطاع، لتوفير احتياجات الدول الغنية من الغذاء الآمن والصحى، وانتزاع الأراضى والموارد من صغار المزارعين والمنتجين وتجميعها فى إقطاعيات شاسعة تعمل بنظام الزراعة التعاقدية مع كبرى الشركات الدولية، وتهتم أولاً وأخيراً بتحقيق فائض ربح غزير لهذه الشركات وموظفيها الكبار ومندوبيها فى دول العالم الثالث.
والعيب بالطبع لم يكن فى هذا الوزير السابق، فنحن لدينا فى مصر الآلاف ممن هم على شاكلة الدكتور البلتاجى، ترتبط مصالحهم ومصالح عائلاتهم ارتباطاً عضوياً بهذا المنهج الاقتصادى، وهم يدافعون عن هذا المنهج باستماتة صادقة، بل يرون أن أى تفكير مضاد لهذا الاتجاه هو مجرد بقايا متخلفة من ركام الماضى الاشتراكى، فى طريقها إلى متحف التاريخ، كما أن لدينا فى كل الوزارات التى تشكلت بعد الثورة -ومن بينها وزارة محلب- عدداً كبيراً من الوزراء يؤمنون بهذا المنهج، ولا يطيقون أن يحدثهم أحد فى أمور من قبيل العدالة الاجتماعية، أو عدالة توزيع الثروة، أو عدالة توزيع الناتج القومى، بل إن بعضهم يتعامل مع حق الفقراء فى التعليم المجانى والعلاج المجانى باعتباره جريمة اقتصادية لا تُغتفر، وقد حدث كثيراً أن شاركتُ فى حوارات صحفية مع عدد من الوزراء، وبعد كل حوار كنت أنتهى إلى أننا أمام «صندوق» محكم يمتلئ بأشخاص تربّوا فى أحضان صندوق النقد الدولى، وأن المسئول الأول فى كل بلدان العالم الثالث يتم إحكام الحصار حوله، حتى لا يرى أشخاصاً آخرين من غير أعضاء هذا الصندوق.
لهذا كله فرحت جداً واستبشرت خيراً عندما فوجئت باختيار الدكتور صلاح هلال وزيراً للزراعة فى التعديل الأخير، لأنه اختيار يشير إلى توجه آخر يتناقض مع التوجه السياسى والاقتصادى لوكلاء الرأسمالية المتوحشة فى مصر، توجه يؤمن بأن خيرات هذا البلد وإمكاناته وموارده فى القطاع الزراعى لا بد أن تصب أولاً فى صالح مواطنيه، وثانياً فى صالح الفلاحين، وأن سياسات تدليل كبار المستثمرين الزراعيين وإعفائهم من الجمارك والضرائب، بل وتخصيص صندوق لدعم صادراتهم الزراعية، هى أمور لا بد أن تتوقف.
إننا الآن أمام وزير تدرّج فى حياته الوظيفية والمهنية من فلاح وباحث، إلى فلاح وموظف إدارى، ثم إلى فلاح ووكيل أول وزارة، وأخيراً إلى فلاح ووزير، وقد تعرّض هذا الرجل الخلوق والمثابر لمعاملة مؤذية من حاشية الدكتور البلتاجى، أطاحت به من موقعه المرموق بالوزارة إلى الهامش، وهى معاملة لحقت بمجموعة من كبار المسئولين فى الوزارة لم يرتكبوا ذنباً سوى أنهم تربوا طيلة حياتهم على أن دور وزارة الزراعة هو خدمة الفلاحين وتوفير السماد والمبيدات والتقاوى للمزارعين، ورفع إنتاجية كل المحاصيل، فإذا بهم أمام حاشية ترفض بصلف وعنجهية أن تتحرّك من مكاتبها للتحدث مع الفلاحين المتجمهرين أمام الوزارة، كما يرفض وزيرهم أن يذهب لافتتاح المعرض الزراعى المصرى السنوى، ولكنه يسافر على رأس وفد لافتتاح جناح كبار المستثمرين الزراعيين المصريين فى معرض زراعى بإيطاليا!
لقد كان أول قرار يصدره الدكتور صلاح هلال ليلة الجمعة الماضية هو إعادة حاشية «البلتاجى» إلى الأماكن التى زحفوا منها على الوزارة.. والمؤكد أنه سيحتاج إلى شهرين على الأقل لإزالة آثار هذا العدوان الرأسمالى المتوحش على وزارة الفلاحين.. وفك الألغام والفخاخ القانونية التى تم تستيفها ببراعة لهيكلة منظومة السماد لصالح كبار التجار، وتلك أمور لو نجح فيها سيشهد هذا القطاع بالغ الأهمية انتعاشاً سريعاً سيعود بالنفع على كل المواطنين.