"الوطن" تبحث مع "عائد من ليبيا" عن فرصة عمل: "آدى الجمل..وآدى النخلة"
خمسة عشر يوماً، لا يعرف الشاب الثلاثينى كيف انقضت، لم يدرك بعد أن أصوات الرصاص وقصف الطائرات، ابتعدت عنه، ما زال الكابوس قادراً على إفزاعه فى كل ليلة يقرر فيها أن يقرأ جزءاً من القرآن، علّه يطمئن، ويُبعد عنه شرور النوم، لكنها الذكرى تأبى الرحيل.
الاستيقاظ فجراً لم يكن عادة «محمد فهمى» قبل أن يسافر سفرته الأخيرة إلى ليبيا، لكنه منذ جاء صار أذان الفجر، هو علامة استيقاظه، مرة مفزوعاً، وأخرى مستبشراً، لكنه فى كل الأحوال لا يقوى على النوم بعده: «آخر حاجة سمعتها فى ليبيا قبل ما أشوف الموت بعينيا كانت أدان الفجر»، هذا الفجر يبدو مختلفاً، فقد قرر أن يشد الرحيل من بلدته «إطسا» بالفيوم، إلى القاهرة، يبحث عن الوظيفة الميرى، التى سمع بُشراها فى البرامج التليفزيونية أكثر من مرة، «الثمن» الذى ستدفعه الحكومة للعائدين من ليبيا تقديراً لخسارتهم «قالوا الحكومة عندها وظائف.. آدى الجمل وآدى النخلة».
3 ساعات من الفيوم إلى القاهرة بدأت فى الخامسة فجراً، ليصل فى الثامنة صباحاً، لم يكن وحيداً فى سفره هذه المرة، فالأم التى سجدت لله شكراً حين رأته مجدداً، قررت ألا تتركه يغادرها وحيداً مرة أخرى، حتى لو كانت حجتها «أروح لمستشفى العيون يا ولدى»، فى محطة الوصول تفرقا، ذهبت الأم مع ولدها الأصغر إلى المستشفى، وذهب هو «يقضى مصلحته» فى وزارة القوى العاملة والهجرة، العنوان الذى لم يكن يعرفه جيداً، اضطره إلى سؤال الناس «ولو أفتوه»، لكنه فى النهاية اتخذ مسلكه الصحيح إلى مدينة نصر، حيث تقع الوزارة فى شارع يوسف عباس.
الوقوف أمام الوزارة فى هذه الساعة المبكرة، لم يكن أمراً عادياً، فالوزارة التى تلقت أمس إنذاراً بعبوة ناسفة صوتية، لم يكن من السهل على رجال الأمن بها ألا يسألوا كل مار ويفتشوا كل من تسوّل له نفسه الاقتراب من الباب الحديدى: «أنا جاى عشان التوظيف.. أنا من بتوع ليبيا»، يقول «محمد» قبل أن يهم أمن الوزارة بتوقيفه: «أومال جاى بدرى كده ليه؟»، يجيب: «عشان جاى من البلد، وقلت ألحق اليوم من أوله».[FirstQuote]
ثيابه الفقيرة، ولهجته الريفية شفعتا له، فأذن له بالوقوف أمام «باب الأفراد»، لم يسأل «محمد» عن مكتب الوزيرة، رغم متابعته سيارتها تدخل من باب الوزارة يتقدمها الحرس: «يعنى لو طلبت أقابلها هتوافق.. أنا عايز مصلحتى حتى لو بواب الوزارة هو اللى هيقضيها».
على «باب الأفراد» وقف «محمد» منتظراً بدء دخول الموظفين رغم اقتراب التاسعة صباحاً، يطمئن بين كل فترة وأخرى على أوراقه وجواز السفر فى الكيس الأسود داخل جيب بنطاله، يخرج جواز السفر الذى بدا متهالكاً مثل صاحبه، ينظر إليه متذكراً اللحظات الصعبة التى مرا بها معاً: «أنا خايف بس مايقبلونيش عشان ماخدتش ختم الخروج، إحنا كنا هربانين وبنعدى بالزوفة من المعبر، وماختمتش الجواز»، الخوف من الرفض الحكومى لمحمد فهمى، قابله «جمال» الذى يقف قريباً منه بالضحك: «يا عم انت خايف تترفض عشان إمضاء، إحنا ورقنا كامل من 4 سنين، وبرضه ما اتقبلناش».
«جمال» الذى يحمل إعاقة فى القدم وأوراقاً تفيد بأنه من مصابى ثورة يناير، لم يحصل على وظيفة من «القوى العاملة» رغم زياراته المتكررة للوزارة: «أنا رحت لكل الحكومات وبرضه مفيش فايدة.. إحنا برضه كانوا بيقولوا لنا زى بتوع ليبيا دلوقتى». ما زال «محمد» قادراً على الابتسام، ولم تفلح محاولات «جمال» لهز ثقته فى «الوعود الحكومية»: «إن شاء الله هتفرج».
20 ألف جنيه خسرها «محمد»، هى حصيلة عمل 6 أشهر، فى ليبيا، «1100» دينار ليبى، كانت راتبه الشهرى، يصرف منها 50 ديناراً شهرياً نظير طعامه وشرابه، والمسكن يتكفّل به صاحب العمل: «العيشة فى ليبيا رخيصة، كنت باجيب الدجاجة بـ3 جنيه.. وعلبة السجائر بـ2 جنيه، وكيلو السكر بـ50 قرش.. بس مفيش أرخص من حياتنا».
الحياة فى ليبيا هذه المرة، لم تكن كسابقتها، فقد تغيّر كل شىء، خاصة حين تقترب من الموت، فى كل طريق، ولا تجد لقدميك طريقاً آخر تذهب إليه، «درنة» كثيرون لم يسمعوا عنها قبل أن تقصفها طائرات الجيش المصرى فى فجر 16 فبراير 2015، لكن «فهمى» حفظ دروبها جيداً، وأعد خطته للهرب سيراً على الأقدام، حين يشتم رائحة الخطر، فالخطر هناك لا تعرف مكمنه، قد يتنكّر فى سائق سيارة، أو جار، أو حتى صاحب العمل، مرة واحدة لم يخش فيها «فهمى»، الموت، حين شاهد فيديو الذبح، وقتها فقط نام ليلته على حلم: «لو كنت رئيس مصر كنت ماسيبتش حد فيها حى»، ليستيقظ لآخر مرة على صوت الطائرات تنفّذ ما أمر به رئيس مصر.
البحث عن عمل فى ليبيا، لا يُقارن بمثيله فى مصر، هناك تستطيع أن تعمل فى أى شىء، وكل شىء، لكن هنا يمكنك فقط الوقوف أمام وزارة القوى العاملة فى انتظار الموظفين، طال الوقوف، وانتهت الأحاديث الجانبية، أحاديث السفر والبطالة، يرن هاتفه ليأتيه صوت طفله الرضيع بينما تتحدث زوجته: «ها يا محمد طمنى إيه الأخبار؟».. «لسه شوية يا أم حازم، هخلص وأكلمك إن شاء الله»، يقول ذلك ثم يغلق الهاتف، ولا يعرف متى سينتهى الأمر.[SecondImage]
أخيراً سُمح له بالدخول، اقترب الآن من تحقيق الهدف: «بتوع ليبيا الأول والباقى من الباب التانى»، يشعر بالفخر، لأنه من أصحاب المقام الرفيع فى الوزارة، يدخل بقدمه اليمنى كما اعتاد مع كل مكان يدخله لأول مرة، متمتماً بدعائه المفضل: «اللهم اشرح لى صدرى ويسر لى أمرى واحلل عقدة من لسانى يفقهوا قولى»، تبدو تمتمته واضحة لزملاء الوقوف على باب الوزارة: «يا عم خليها على الله ولو لينا نصيب هنلاقيه».
أنهى «محمد» تقليبه فى ذكريات رحلته «الغبرة»، كما يسميها، ليبدأ فى البحث عما هو مقبل، يصعد السلم، يدخل من الباب حيث دخل الآخرون، لا يرى مكتباً أمامه، فقط «ترابيزة»، رصت عليها مجموعة من الأوراق، ورجل يرتدى نظارة بدت عليه سمات الموظفين، يدقّق فى الأوراق، مقلباً إياها: «هو انت عايزنا ناخد الأصل.. هات لنا صور يا ابنى»، يتلعثم «محمد»، يريد أن يسأل أين يذهب قبل أن يجيبه أحدهم: «شمال فى يمين فى شمال تانى.. عند الجراج»، 5 جنيهات ثمن تصوير 3 ورقات وملء الاستمارة «المجانية» التى حصل عليها «محمد» من الوزارة: «أنا ماباعرفش أقرا ولا أكتب»، قالها محمد لموظف تصوير الأوراق الذى ملأها له نظير 5 جنيهات أخرى، عاد «محمد» أدراجه إلى الموظف الأول، أعطاه الأوراق كاملة مع الاستمارة ممهورة بإمضاء يحمل اسمه وخط موظف التصوير: «فين ختم الخروج، ماصورتوش ليه».
يمسح «محمد» جبينه قبل أن يرد: «إحنا كنا هربانين يا بيه، وخرجنا من المعبر، ما صدقنا نعدى ماعرفتش أختم»، تقطيبة جبين الموظف لم تكن مطمئنة، لكن قادماً آخر من خلف باب زجاجى كان له رأى آخر: «إحنا مالناش دعوة، إحنا هناخد الورق وخلاص وهما يراجعوه بمعرفتهم فى السجلات»، لا يعرف «محمد» عن أى سجلات يتحدّث ذلك الموظف، يبدو من لهجته الآمرة أنه العالم ببواطن الأمور: «هو إحنا كده هيجيلنا التعيين إمتى؟»، السؤال الذى لقى ضحك موظف الوزارة، بهت «محمد» من إجابته: «دى مش استمارة توظيف دى استمارة قضية عشان المتضررين. انت كاتب إنك خسرت 20 ألف جنيه واحنا هنرفع بيهم قضية زى ما عملنا مع بتوع العراق بالظبط».
لم يستوعب الشاب كيف ستتحول استمارته تلك إلى قضية، وكيف سترد له الدولة حقه المسلوب فى ليبيا بعد أن هرب صاحب العمل بأمواله، لكن السؤال الأهم: «طب إمتى فلوسى هترجع؟ ما اعرفش بقى، انتم وبختكم، سنة اتنين عشرة، أهو الأحوال تهدا ويبقى فيه حد فى ليبيا نعرف نكلمه». خسارة «فهمى» فى ليبيا، لم تكن فادحة إذا ما قورنت بخسارة «أبوإسلام» الذى جاء باكياً إلى مكتب الوزيرة، مستصرخاً إياها: «شقى 22 سنة راح»، لكنه لم يجد الباب إليها مفتوحاً، أربعة أيام فقط مرت منذ هرب «أبوإسلام» بعائلته، من طرابلس، الطريق الذى لم يكن آمناً لـ«محمد» وهو سائر «بطوله»، كان أكثر قسوة على «أبوإسلام»، الذى زحف إلى الحدود التونسية برفقة أسرة من خمسة أفراد، اختار لهم منذ ربع القرن أن يعيشوا فى ليبيا، حيث الحياة الرغدة والعمل الوفير.
الطريق الوعرة التى سلكها «أبوإسلام» لا يعرف حتى الآن كيف خرج منها، كيف استطاع أن ينجو بأسرته، تاركاً كل شىء وراءه: «لولا كنت عامل حسابى وجايب شقة فى مصر كنت هارجع أقعد فى الشارع»، المقاولات كانت مجال عمل الرجل الخمسينى الذى استطاع من خلاله أن يكوّن ثروة نقل جزءاً منها إلى مصر فى صورة عقارات، بينما بقيت الأموال السائلة هناك فى ليبيا، حيث لن تعود: «التعويض لو جه زى ما بيقولوا، هيبقى أقل من النصف، بس أهو أحسن من مفيش»، حين قرر «أبوإسلام» أن يستقر فى ليبيا قبل 25 عاماً، كان شقيقه عائداً من العراق محملاً بخسارته، ناجياً بحياته: «كأن التاريخ رجع لورا وكأنى لسه شايفه داخل علينا من الباب وفى إيده البطانية اللى كان متغطى بيها فى الصحرا وهو هربان»، حوالات العراق، لم تُصب شقيقه، ولم يصبه تعويض الحكومة العراقية عن خسائر المصريين إبان الحرب، لكن أصابه خوف آخر لم ينتهِ حتى اليوم: «كره السفر، وياما كنت باتحايل عليه ييجى معايا ليبيا، لكن ماكانش بيرضى، ودلوقتى بيقول لى شفت مالناش غيرها رغم كل اللى فيها».. «الوظيفة» التى بشّرت بها «العشرى» العائدين من ليبيا إبان قصف الجيش المصرى لها، كانت سبباً كذلك فى أن يعرف الطريق إلى الوزارة عدد من القادمين منذ شهور طويلة، أو فترات شارفت على الاقتراب من العام.[SecondQuote]
«إحنا كمان اتضررنا.. وكنا نازلين إجازة وماعرفناش نرجع» يتساءل «العمدة» -هكذا يفضل أن يسمى نفسه كما كانوا ينادونه فى ليبيا لسنوات- عن حقه فى تعويض ملائم ووظيفة تعينه على العيش، أو فرصة سفر أخرى إلى بلد جديد لم تصل إليه نيران الثورات بعد: «إحنا ذنبنا إيه.. سيبناها مخضرة وروحنا قلنا نشتغل، ولما رجعنا محدش عبرنا لا بتعويض ولا وظيفة»، سؤال واحد اختلف حين وجهه الموظف المسئول لـ«العمدة» عن غيره من القادمين: «انت خارج من ليبيا من 8 شهور، جاى دلوقتى ليه»، لم يتلعثم الرجل الأربعينى القادم من كفر الشيخ: «هو إحنا كان حد قالنا تعالوا قبل كده وماجيناش.. أنا جيت لما سألتم فينا»، شهور وربما سنوات تنتظر «فهمى» ورفاقه للحصول على التعويض المناسب، عما حدث لهم فى ليبيا، لكن مثلاً ريفياً صار يلح على الجميع: «طب عيشونا النهارده وموتونا بكرة.. عايزين الوظيفة». الأحلام التى بدأت فى التبخّر بعد حديث الموظفين عن طول فترة التقاضى للحصول على التعويض، كادت تذهب بالسبب الأصلى الذى من أجله تكبّد هؤلاء مشقة النزول من قراهم البعيدة إلى القاهرة، حيث مقر الوزارة.
«طب والوظيفة؟»، السؤال الذى فرض نفسه على عقل «محمد»، ليطمئن إلى أن دعاءه قد استجاب له الله، كان بمثابة الباب الذى انطلقت من خلفه أسئلة الآخرين، ليطمئنهم الموظف بابتسامة وإجابة رآها شافية: «اللى عايز الوظائف متعلقة فوق فى الدور الرابع.. اطلعوا شوفوا عايزين إيه؟»، طمأن الشاب الريفى نفسه، فها هو الحلم قد اقترب، والوظائف موجودة، والطابق الرابع ليس بعيداً، والوظائف «على الحيطة»، لم ينتظر المصعد، فما زال قوياً ويافعاً على أن ينتظر فى طابور انتظار الصعود، وما زالت خسارته المادية لم تخلف له هزيمة فى الجسد تجبره على أن يستمع إلى حديث الموظفين عن القنبلة التى وجدوها أمس الأول، والتحذيرات الأمنية بالوزارة، وتلك الموظفة التى أتت متأخرة لعملها، متسائلة عن دفتر الحضور: «مكتب التوظيف لو سمحت»، يعيد السؤال مرة أخرى، فلا يسمع سوى الإجابة نفسها، بينما لا يتبقى على هناك سوى غرفة واحدة فى آخر الدور: «أنا جاى من ليبيا وعايز وظيفة»، الجملة التى اعتقد «محمد» فى سحرها، لم تفلح هذه المرة، فقد جاءه الرد: «بص على الوظائف، وشوف إيه اللى يناسبك، وتعالى خد جواب»، وقف وسط مجموعة من الشباب يدقّق جيداً فى الكشوفات المعلقة، يبحث عن وظيفة لا تتطلب مؤهلاً، لكنه لا يعرف كيف يبحث وهو لا يجيد القراءة: «لو سمحت مش طالبين سواقين»، يشير إليه أحدهم بكشف آخر، قائلاً: «شوف فى الكشف اللى هناك»، قبل أن يرد أحد الموظفين: «محدش يروح السوبرماركت بتاع الزيتون، ده لسه بيتبنى».
لم تكن عملية البحث سهلة على شاب لا يجيد القراءة والكتابة، فقرر أن يتوجّه إلى «هناك»، حيث كانت آخر غرفة فى الدور: «أنا من الفيوم وعايز أشتغل هناك».. «طب وإيه اللى جابك هنا ماروحتش ليه المديرية هناك؟»، لم يعرف «محمد» رداً ملائماً، أيخبره أن راتب الوظيفة المعروضة هناك لن يكفيه العيش الحاف؟، وهو الذى يدفع فاتورة كهرباء 150 جنيهاً شهرياً بسبب إهمال حكومى فى تركيب العدادات، أم يخبره أن تكاليف تربية وتعليم طفليه لن يكفيهما 700 جنيه شهرياً: «قالوا لى تعالى هنا أحسن»، هكذا اكتفى، خطاب ممهور بإمضاء وكيلة الوزارة، «إيمان النحاس»، وختم الوزارة، كان كفيلاً بأن يضيع عليه متابعة كشف والدته فى مستشفى العيون: «الوكيلة مش هتمضى ورقة عليها اسم الوكيل السابق، ولازم الورقة تبقى بيضا ورا وقدام، وممكن تقبل أنها تمضى على ورق مسطر، غير كده لا»، قالتها مدام «يسرية» الموظفة بمكتب التوظيف لـ«محمد»، طالبة منه الرجوع إلى «هناك»، كى يغير الخطاب الموجّه إلى مديرية القوى العاملة بالفيوم للتوصية بسرعة التوظيف فى وظيفة ملائمة: «طب والجواب ده أعمل بيه إيه؟»، وجاءت الإجابة: «ده تحطه فى المديرية، وهما هيوظفوك».
طلب التوظيف