3 تجارب لاسترداد الأموال: اليهودية والإيرانية.. أو «الخيبة الفلبينية»

كتب: سيد جبيل

3 تجارب لاسترداد الأموال: اليهودية والإيرانية.. أو «الخيبة الفلبينية»

3 تجارب لاسترداد الأموال: اليهودية والإيرانية.. أو «الخيبة الفلبينية»

لا يعلم أحد على وجه اليقين حجم أموالنا التى استقرت فى شكل حسابات سرية فى بنوك العالم المختلفة، ولكن يقيناً استعادة هذه الأموال كاملة مهمة شبه مستحيلة، لأسباب كثيرة، أحدها أن البنوك التى تحتضن هذه الأموال لن تسلمها راضية مختارة، فالبنوك التى تقبل «الأموال القذرة» تقاتل من أجل الاستيلاء عليها بعد غياب أصحابها، وربما يتوجب علينا دراسة تجربة إيران التى نجح مسئولوها فى استرداد 17 مليار دولار من أموال «الشاه» بعد قيام الثورة الإسلامية فى عام 1979 بعدة سنوات، فهى أقرب للتطبيق من تجربة اليهود الذين دعمتهم الولايات المتحدة بكل قوة، حتى استردوا 1.3 مليار فرنك استحوذت عليها بنوك سويسرا لأكثر من نصف قرن. معظم هذه البنوك تعمل من خلال ما يعرف بـ«جنات الضرائب»، وجنات الضرائب تعبير مهذب لمراكز غسيل الأموال القذرة، فهذه المراكز معروفة بمرونة جهازها المصرفى وسريته الكبيرة، ما يجعلها مقصداً للودائع والتحويلات المالية، التى لا يرغب أصحابها فى الكشف عن مصادرها، أشهر هذه الجنات هى سويسرا وإمارة «ليختنشتاين» و«أندورا»، لكن أسوأها مجموعة جزر متناهية الصغر تتبع التاج البريطانى مثل «جيرسى» وجزيرة «مان»، وجزر «العذراء البريطانية» و«برمودا» وجزر «تركس» و«كايكوس» و«جبل طارق»، وأهم هذه الجزر «الكايمان»، وهناك أيضاً هونج كونج التى تتبع الصين الآن بعد سنوات طويلة من السيطرة البريطانية عليها، لكنهما ما زالا يرتبطان بعلاقات قوية، مما يجعل بريطانيا -فعلياً- أكبر مركز فى العالم لغسيل الأموال وإخفاء ثروات السياسيين الفاسدين، الدهاء البريطانى المعهود وجد مجموعة من الصيغ القانونية الشكلية للتنصل من ممارسات هذه الجزر الإجرامية، منها استقلال شكلى لبعضها، يبعد المسئولية عن لندن. وتحمى هذه الدول والإمارات الصغيرة عملاءها بعدة طرق منها قوانين تعرف باسم «السرية المصرفية»، والسرية المصرفية مجموعة من القوانين شرّعتها سويسرا منذ عام 1934، رغم أنها كانت عرفاً مصرفياً مستقراً منذ عشرات السنوات قبل هذا التاريخ، وحسب قوانين السرية المصرفية يحصل المودع على حماية كاملة على تفاصيل حسابه وودائعه، وبالتالى يظل فى مأمن من أى ملاحقات قانونية اللهم إلا فى حالات محدودة. وتظل قوانين السرية المصرفية -رغم ما أصابها من ضعف نتيجة هجوم من جانب الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا منذ نحو 7 سنوات بهدف الحصول على بيانات عن مواطنيهم المتحصنين فى هذه البنوك هرباً من استحقاقات ضريبية عليهم- عائقاً أمامنا كمصريين نطالب باسترداد الأموال التى نهبها رموز نظام «مبارك» والمقربون منه، وأمام مطالبة التونسيين بالمليارات التى استولى عليها زين الدين بن على وعائلته وأقطاب نظامه، وأمام السودانيين إذا صدقت تقارير مدعى عام المحكمة الجنائية الدولية لويس مورينو أوكامبو الذى سبق واتهم الرئيس السودانى الحالى عمر البشير بامتلاك 9 مليارات دولار فى بنوك غربية! وأمام السلطات الصومالية التى سعى رئيسها السابق شريف شيخ أحمد فى عام 2012 بالتعاون مع مكتب خدمات قانونية أمريكى لاسترداد الأموال الصومالية الموجودة لدى بنوك سويسرا منذ انهيار نظام محمد سياد برى عام 1991 والقائمة طويلة جداً، تشمل حكاماً ومسئولين ورجال أعمال متورطين فى نهب أموال الشعوب.[FirstQuote] معظم هذه الدويلات والجزر -خصوصاً التى تتبع بريطانيا- تعمل بنظام «أوف شور»، وهو ما يوفر للفاسدين غطاء لإخفاء عملياتهم المشبوهة، ويصعب تعقب أموالهم، والشركة التى تعمل بنظام أوف شور هى شركة ذات كيان قانونى، تسجل فى بلد غير بلد مؤسسيها، وقد تمارس نشاطها فى بلد ثالث، وربما تديرها شركة أخرى فى بلد رابع، باختصار «أوفشور» تعنى شركة ينحصر عملها خارج الحدود، العمل بنظام أوف شور لا يعنى بالضرورة تحايلاً على القانون، فهو مسموح به فى دول كثيرة منها فى منطقتنا البحرين ودبى ورأس الخيمة، لكن هناك جزراً معروفة تسمح بتكوين هذه الشركات وتمنحها مميزات أكثر فى السرية، وتسمح لها بتجاوزات أكبر لإخفاء الأموال القذرة، مثل «البهاما» «وبرمودا» و«فيرجن أيلاند» وجزر الـ«كايمان». كما أن السرية المصرفية ونظام أوف شور حالا دون استرداد دول كثيرة لأموالها المنهوبة، فما زال الجدل قائماً عن مصير ثروات جون كلود دوفاليى، رئيس هايتى الذى أطيح به فى عام 1986، وفرديناند ماركوس رئيس الفلبين الذى أطيح به أيضاً فى 1986، وسانى أباشا رئيس نيجيريا (1993 - 1998) الذى نهب نحو 5 مليارات من أموال شعبه وأودعها فى بنوك موزعة على مختلف دول العالم. وحتى دول الغرب عانت من جنات الضرائب، خاصة «سويسرا وإمارة ليختنشتاين، وأندورا، ولوكسمبورج» التى تمثل ملاذات آمنة -بحكم قوانينها- لأثرياء الغرب الذى يرغبون فى الهروب من دفع الضرائب. وقد ظل هذا الوضع قائماً لعقود حتى انفجرت الأزمة المالية العالمية فى عام 2008، وفرغت خزائن الحكومات التى بدأت تفتش فى أدراجها الفارغة، فوجدت ملف الحسابات السرية، فشنت الولايات المتحدة هجوماً عنيفاً على بنوك سويسرا، وعلى رأسها بنك «يو بى إس»، الذى أُجبر على تسليم تفاصيل بيانات نحو 4450 عميلاً، ساعدهم البنك على التهرب من الضرائب، وحاولت دول أوروبية أخرى أن تمارس نفس الضغوط على سويسرا، لكن لم يكن لها نفس نفوذ الولايات المتحدة، فلم تسفر ضغوطهم سوى عن توقيع اتفاقات تقلل نسبياً من فرص التهرب الضريبى، دون أن تتمكن هذه الدول من الحصول على بيانات شافية بخصوص مواطنيها المتهربين من دفع ضرائبهم، علماً بأن التقديرات الرسمية البريطانية لحسابات مواطنيها المتهربين فى بنوك سويسرية تصل لنحو 200 مليار دولار، بينما كشفت مفاوضات سويسرية - ألمانية فى 2009 عن حسابات لمواطنين ألمان فى بنوك سويسرا التسعة عشر تقدر بنحو 472 مليار دولار، ما يعنى أن سويسرا قدمت تنازلات لكل دولة على حسب قوتها، فسلمت أمريكا قوائم مفصلة عن عملائها، أما مع الدول الأوروبية، فقد اكتفت بالتعهد بالتعاون معها فى حال تقدمت هذه الدول ببيانات مفصلة عن حساب العميل والمصرف وما يثبت مخالفته للقوانين، أى ألقت الكرة فى ملعب الدول الأوروبية الغاضبة.[SecondQuote] أما دول العالم الثالث فلم تكن فى الحسبان من الأساس، فلم يحدث -قبل اندلاع الثورات العربية- أن طالبت دولة واحدة سويسرا أو غيرها باسترداد أى أموال تخصها، والدول القليلة التى استعادت جزءاً من أموالها المنهوبة مثل إيران التى استعادت نحو 17 مليار دولار من أصل نحو 24 مليار دولار هى حجم الأموال التى استولى عليها شاه إيران تكاد تكون استثناء يثير الإعجاب ويستحق أن نسعى إليهم لنتعرف على تجربتهم فى استرداد هذه الأموال، فقليل هى الدول التى استعادت هذه النسبة الكبيرة من أموال نهبها حكامها، وربما تكون نيجيريا حالة نجاح أخرى، فقد استعادت أكثر من 2 مليار دولار من حسابات «أباشا» السرية، لكن ذلك تم بمبادرات ومساعدات من جانب شركات قانونية غربية طامعة فى عمولات كبيرة على الأموال المستردة.[ThirdQuote] وكان الرئيس الليبى الراحل معمر القذافى الزعيم العربى الوحيد الذى تطرق لهذا الموضوع عندما اتهم علناً سويسرا بأنها مركز عالمى لتبييض الأموال، وقال فى حديث شهير، نشرته مجلة ديرشبيجل الألمانية فى مايو 2010، إن الحكومة السويسرية تتصرف مثل المافيا، واتهمها بأنها تقف وراء الوفيات الغامضة لعدد كبير من أصحاب الحسابات السرية فى بنوكها، بهدف الاستيلاء على ودائعهم، وأضاف «أن عدداً كبيراً من الليبيين الذين يملكون حسابات سرية ماتوا فى ظروف غامضة»، مؤكداً «أن سويسرا تسمح بالموت الرحيم، عمداً من أجل الحصول على أموالهم»، والموت الرحيم هو السماح للمريض اليائس من الشفاء بإنهاء حياته، وهناك أكثر من 7 آلاف شخص ماتوا بهذه الصورة، وفقاً لتقديرات القذافى، لكن هذه الاتهامات جاءت على خلفية إلقاء السلطات السويسرية القبض على ابنه هانيبال بعد اتهامه بالاعتداء على أحد موظفيه، ثم إن القذافى أقر بوجود حسابات منسية لمواطنيه ولم يطالب بها! ويبقى السؤال الأهم، هل يمكن لنا أن نسترد الأموال المنهوبة فى هذه البنوك؟ الإجابة نعم، وهناك سابقة مهمة وخطيرة جداً، فقد تنبه بعض اليهود الأمريكان لوجود ودائع صغيرة تعود ملكيتها لعدد كبير من ضحايا ما يعرف بـ«المحرقة النازية»، ولم يتم استردادها على مدار أكثر من خمسين عاماً، وجند اللوبى اليهودى عدداً من القانونيين والمؤرخين وشكلوا لجنة دعمتها إدارة كلينتون، وتوصلوا بالفعل فى 12 أغسطس 1998 لاتفاق شامل مع كل البنوك السويسرية لإعادة هذه الأموال مضاف إليها تعويض مناسب، وفى 12 أغسطس 2008 تم تصفية هذا الملف نهائياً، وبلغت قيمة التعويضات 1٫33 مليار فرنك، وهذا يعنى أن هناك إمكانية -نظرياً- أمام أى دولة عربية أو غير عربية لاسترداد جزء من أموالها المنهوبة سواء فى حسابات أصحابها أحياء ومعروفين أو حتى الحسابات المنسية، لكن ذلك يتطلب جهوداً جبارة تتضافر فيها الضغوط الدولية والدبلوماسية، مع الجهود القانونية لمكاتب محاماة شهيرة متخصصة فى هذه القضايا، وقبل كل ذلك لا بد من وجود إرادة سياسية قوية، ربما لا تكون متاحة نظراً لارتباط بعض أصحاب القرار فى هذا الشأن بالنظام السابق، مما يجعل إغلاق هذا الملف أمراً مرغوباً فيه من الجميع لأسباب مفهومة!