أصبحت الجماعة والحرف والنقل أوثاناً تُعبَد من دون الله! وصار الدين المزيَّف قناعاً لإجبار خلق الله على نمط رجعى للحياة، وأداة لأغراض التمكين السياسى، ووسيلة لجمع الأموال، ومرتعاً لأهواء المفتين، وتبريراً لسلوكيات اجتماعية متخلفة من عصور الانحطاط الحضارى، وتغلفت به «عادات» موروثة، وتلونت به جماعات المصالح، ورفعته شعاراً جموع تحركها العاطفة وحماس القطيع، من دون غطاء من العقل أو الإرادة الحرة.
إن إحدى مهام تجديد الخطاب الدينى -كما أشرنا فى مقال سابق- تستلزم تحديد «جوهر الدين» من حيث هو دين، ومن ثَمَّ معرفة «وظيفة الدين» وتخليصها من النظرة الجزئية والضيقة وأيضاً من الاستغلال السياسى أو الاجتماعى أو الاقتصادى. وربما يساعد تحليل معنى الدين فى اللغة، فى تحديد ماهية الدين، وهو ليس تحليلاً على طريقة القدماء فى البدء بالمعنى اللغوى ثم المعنى الاصطلاحى، بل تحليل عقلى للغة والاصطلاح، وهذه أولى مهام «فلسفة الدين» التى لا تزال غامضة فى ثقافتنا، ومختلطة بحقول أخرى مثل الفلسفة الدينية وعلم الكلام والفلسفة الإسلامية أو اليهودية أو المسيحية، لدرجة أن بعض المختصين يقعون فى هذا الخلط بين الحقول المعرفية، شأنهم شأن العوام الذين يرون كل شىء مثل الآخر لمجرد التشابه اللغوى!
وإذا حللنا عقلياً المعنى اللغوى للدين يمكن تسجيل الملاحظات التالية:
من معانى الدين فى اللغة: «العادة». وربما اعتُبر الدين عادة؛ لأنه عندما يتغلغل فى حياة الناس يصبح عادة؛ لكن مأساتنا أن العادات أصبحت ديناً! والمطلوب هو تغيير تلك العادات بكشفها وفضحها وكيف أنها ليست ديناً، بل مجرد عادات اجتماعية موروثة. ثم تكوين عادات تصبح سلوكاً للتقدم والبناء وليس للاستهلاك اليومى أو التوظيف الأيديولوجى، وفى الوقت نفسه استعادة الدين ليصبح هو العادة؛ فالدين فى أحد معانيه فى اللغة هو العادة، لكن أى دين.. هل هو دين الإسلام فى نقائه وخصوبته الأولى أم هو التراث الدينى الذى صنعه البشر ليلائم زمانهم ومشاكلهم أم دين علماء السلطان الذين أفتوا فى عصورهم لحسم معاركهم هم لا معاركنا نحن؟ أم دين الخوارج فى كل العصور الذين فهموا الدين بوصفه جبراً وإجباراً وجبروتاً؟
كذلك يكشف التعريف اللغوى للدين عن أنه «شأن»، والدين شأن، ربما لأن الدين شأن إنسانى محض، وحالة إنسانية بحتة، فالدين نظام اجتماعى، والحيوان بلا دين؛ لأنه ليس لديه هذا النظام، كما أنه لا يرتفع -فيما يشير الفيلسوف الألمانى هيجل- عن مستوى الإحساس والغريزة، إلى مستوى العقل والتفكير، ولا يصعد إلى مستوى «المطلق» عن طريق الفكر، بل يظل عند مستوى الإحساس والغريزة.
إذن، الدين -هكذا ينبغى أن يكون- ارتفاع عن مستوى الإحساس والغريزة (وهو المستوى الذى تقف عنده قطعان الحيوان وأيضاً قطعان البشر)، إلى مستوى التفكير، لكن أى تفكير؟
إنه التفكير العقلى المنضبط فى الاستدلال، وليس التفكير الذى ينتهجه هواة القفز على المقدمات، أو أنصار التفكير الجزئى الذى يقتطع كل شىء من سياقه الكلى، التفكير العقلى لا التفكير التبريرى! ولا شك أن هذه نقطة تحتاج إلى توضيح، نرجو الوقوف عندها فى مقال آخر، حتى لا نبعد هنا عن تحليل المعنى اللغوى للدين.
تشتق كلمة الدين فى بعض الأحيان من فعل متعدٍّ بنفسه «دان يدينه دينا بالكسر»، أى «أذله واستعبده»، والمراد: أخضعه، وحكمه، وملك أمره، وقهره. وينطوى الدين بهذا المعنى على نوع من إخضاع أتباعه لنظام وقواعد، والتحكم فى سلوكهم، وامتلاك أمور حياتهم بتدبيرها وتصريفها.
ومع أن هذا المعنى موجود فى قواميس اللغة، فلا أظن أنه مقصود فى أى من آيات القرآن الكريم، فالإسلام لم يأت للقهر ولا للاستعباد، بل جاء لتحرير الإنسان، وتحرير اختياره، والدين بلاغ وليس إكراهاً، والرسول مذكر وليس جباراً، (وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ) (العنكبوت: 18).. (نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ) (ق: 45).. (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِى الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ) (يونس: 100).
فالدين اختيار، وهذا الاختيار مرتبط بالحرية، وهذه الحرية قائمة على التعقل، والله يحب أن يأتيه عبده طوعاً لا كرهاً، ولو كان رب الكون -أستغفر الله- يريد ما يريده المتعصبون لأجبر أهل الأرض كلهم على الإيمان، لكنه سبحانه ترك الحرية للإنسان: (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) (الكهف: 29).
إذن المسألة تتعلق بتبليغ الحق وليس بالإجبار عليه، ومن هنا فهذا المعنى اللغوى الذى ذكره «الرازى»: «دَانَهُ يدينه دِيناً بالكسر: أذله واستعبده، فَدَان»، هو فقط مجرد معنى لغوى عند بعض الناس وفى بعض الاستخدامات التى تحرك جماعات العنف، ولا شأن له بالدين الخالص الذى يتأسس على الاختيار والحرية والتعقل، لا الجبر ولا الإجبار ولا الجبروت!
(وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ).. هكذا حسم القرآن الأمر برمته!
يتبع إن شاء الله...