حين قام الشيخ «ابن باديس» بمديح «أتاتورك»!

الشيخ «عبدالحميد بن باديس» هو أشهر علماء الدين فى تاريخ الجزائر، وقد أفردت له فصلاً فى كتابى «خريف الثورة».. وهنا سطور عن بعض من آرائه. (1) فى قضية العروبة والإسلام يذهب «ابن باديس» إلى رأى جَسور لم يعتد القول به عموم المسلمين. يقول «ابن باديس»: «العرب مظلومون فى التاريخ، فالناس يعتقدون ويعرفون أن العرب كانوا همجاً لا يصلحون لدنيا ولا دين، حتى جاء الإسلام فانتقلوا من الهمجية إلى التحضر». ويعقب المفكر الجزائرى «محمد الميلى»: «ينكر ابن باديس على المفسرين التقليديين تفسيرهم للمصانع بالقصور، والسائحين والسائحات بالصائمين والصائمات، ويؤكد أن المقصود بالمصانع هو المعامل، وأن المقصود بالسائحين هو الرحالون والرواد من أجل الاطلاع والاكتشاف، لأن فائدة السياحة قد تكون أتمّ وأعمّ من فائدة بعض الركوع والسجود». (2) هنا محطة مهمة فى الفكر السياسى لـ«ابن باديس»، نعنى بذلك موقفه من قضية الخلافة الإسلامية التى أربكت المشرق وأقامته على الشيخ «على عبدالرازق» حين اجتهد صائباً بالقول بعدم حتميتها. يقول «ابن باديس»: «لقد علمت الدول الغربية الاستعمارية أن فتنة المسلمين اسمها «الخليفة»، فأرادت أن تستغل ذلك عدة مرات أصيبت فيها كلها بالفشل، والعجب أن يندفع المسلمون، وعلى رأسهم أمراء وعلماء، ومن هذا الاندفاع ما يُتحدث به فى مصر فتُردد صداه الصحف فى الشرق والغرب، وتهتم له صحافة الإنجليز على وجه الخصوص. يتحدثون فى مصر عن «الخلافة» كأنهم لا يرون المعاقل الإنجليزية الضارية فى ديارهم! كفى غروراً وانخداعاً.. إن الأمم الإسلامية اليوم، حتى المستعبَدة منها، أصبحت لا تخدعها هذه التهاويل ولو جاءتها من تحت الجبب والعمائم. (3) ويلفت النظرَ الفكرُ السياسى عند «ابن باديس» ورؤيته لإلغاء الخلافة وعصر «أتاتورك».. يقول «ابن باديس» فى مقال له نشرته مجلة «الشهاب» فى نوفمبر عام 1938: «فى السابع عشر من رمضان المعظم، لفظت أنفاس أعظم رجل عرفته البشرية فى التاريخ الحديث، وعبقرى من أعظم عباقرة الشرق، الذين يطّلعون على العالم فى مختلف الأحقاب، فيحوّلون مجرى التاريخ ويخلقون خلقاً جديداً، ذلك هو مصطفى كمال أتاتورك.. باعث تركيا من شبه الموت إلى حيث هى اليوم من الغنى والعز والسمو». «لقد ثار كمال أتاتورك ثورة جامحة، ولكنه لم يثُر على الإسلام، وإنما ثار على هؤلاء الذين يسمّون المسلمين، فألغى الخلافة الزائفة وقطع أيدى أولئك العلماء عن الحكم، وقال للأمم الإسلامية: عليكم أنفسكم وعلىّ نفسى، لا خير لى فى الاتصال بكم ما دمتم على ما أنتم عليه، فكونوا أنفسكم ثم تعالوا نتعاهد ونتعاون مثل الأمم ذوات السيادة». «نعم، إن أتاتورك نزع عن الأتراك الأحكام الشرعية، وليس مسئولاً عن ذلك وحده، وفى إمكانهم أن يسترجعوها متى شاءوا وكيفما شاءوا، ولكنه أرجع لهم حريتهم واستقلالهم وسيادتهم وعظمتهم بين أمم الأرض، وذلك ما لا يسهل استرجاعه لو ضاع، هو وحده كان مبعثه ومصدره». (4) قبل مجىء الشيخ «ابن باديس» كان الشعار السائد «اعتقد ولا تنتقد»، فأسس فى عام 1925 صحيفة «المنتقد»، عازماً القضاء على هذا الشعار المتهافت.. وقد استطاع. نجح «ابن باديس» فى إعداد الرجال للثورة التى جاء وقودها من الموقد الذى أشعله، ولولا «ابن باديس» وخليفته «البشير الإبراهيمى» وجمعية العلماء التى أسساها، لما تهيأت تربة الجزائر للثورة العملاقة التى جاءت بعد قليل. (5) رحل «ابن باديس» عام 1940 وتولى «البشير الإبراهيمى» رئاسة الجمعية حتى حلها عام 1965. وكانت نهاية الرجلين التعبير الأمثل عما جرى فى الجزائر قبل الثورة وبعد الدولة! رحل «ابن باديس» بعد يأسه من الحل السلمى الذى ذهب لأجله إلى باريس عام 1936 ولاقى انتقادات على سعيه. رحل عام 1940 وهو ممنوع من التدريس والخطابة والنشاط، ورهن الإقامة الجبرية. وتولى «البشير الإبراهيمى» موقعه، وهو مَن أطلق من القاهرة أول بيان مؤيد للثورة الجزائرية. جاء «بن بلة» بعد نجاح الثورة ليضع نهاية لجمعية العلماء، كان هناك وجهُ شبهٍ بين أحداث الثورة المصرية والثورة الجزائرية فى هذا السياق. تعاملت ثورة الجزائر مع جمعية العلماء بمثل ما تعاملت الثورة المصرية مع «الإخوان المسلمين»، لكن الفارق الأعظم أن الجمعية كان لها نصيب وفير فى الثورة الجزائرية، رجالاً وأفكاراً، وهو ما لم يكن لـ«الإخوان المسلمين» فى مصر. ثم إن الجمعية كانت جميعها، وبلا استثناء، صوت الاعتدال والوسطية، لكن مكوِّن التطرف كان يتصاعد ويسيطر داخل جماعة «الإخوان المسلمين». لكن بعض الأخطاء تطابقت، فبمثل ما طلب «الإخوان» من الرئيس «عبدالناصر» باعاً فى السلطة والحكم قال «البشير الإبراهيمى» للرئيس «بن بلة» عام 1963، منتقداً استبعاد جمعية العلماء من الحكم: «ما على هذا اتفقنا».. فكان أن وضع «بن بلة» الأساس لنهاية جمعية العلماء. وقد انتهز «بومدين»، لاحقاً، صدور بيان من «البشير الإبراهيمى» يستنكر فيه إعدام «سيد قطب» على يد الرئيس «عبدالناصر»، فقام بوضعه رهن الإقامة الجبرية. وغابت جمعية العلماء المسلمين الجزائرية عن الساحة حتى عادت عام 1999 برئاسة «عبدالرحمن شيبان»، لكنها جاءت هذه المرة كواحدة من جمعيات لا حصر لها.. وتالية فى النفوذ لجماعات الإسلام السياسى وتنظيمات العنف التى أطاحت بالمشروع الإصلاحى وبتراث الثورة والدولة. وهكذا اختتمت جمعية العلماء حياتها بمفارقتين كبيرتين، الأولى: أن مؤسسها الأول «ابن باديس» مات فى الإقامة الجبرية بقرار الاستعمار الفرنسى، ومؤسسها الثانى «الإبراهيمى» مات فى الإقامة الجبرية بقرار الثورة الجزائرية. والمفارقة الثانية: أن الجمعية غابت حيث كانت قريبة من التجربة ورائدة للحركة الإصلاحية، وعادت حيث أضحت بعيدة عن كل شىء، عن الماضى الذى تآكل وعن الحاضر الذى تلاشى! (6) لقد انهزمت «جمعية العلماء» أمام «جماعة الإخوان»، وتوارى «ابن باديس» لصالح «حسن البنا».. صعد الإسلام السياسى وتراجع الإسلام الحضارى. حفظ الله الجيش.. حفظ الله مصر