فى أكتوبر 2014 نشرت معظم الصحف المصرية خبراً عن «عودة أحمد عز للسيطرة على سوق الحديد». وبعد أيام قليلة من خروج «عز» من السجن فرضت وزارة التجارة والصناعة رسوماً إضافية على الحديد المستورد بحجة حماية الصناعة الوطنية من الإغراق. وتابع المواطنون الاحتفالات الضخمة التى أقيمت فى مصانع «عز» بمناسبة رجوعه سالماً من السجن إلى أرض الصناعة.. وآنذاك اشتعلت مواقع التواصل الاجتماعى بتعليقات تراوحت بين السخرية الموجعة والغضب الشديد مما آلت إليه الأوضاع فى مصر بعد ثورتين كبيرتين لم يجن المواطنون منهما غير انهيار الحالة الاقتصادية وزيادة معدلات الفقر والبطالة وتوحش الفساد وارتفاع الأسعار.
وآنذاك أيضاً حرص «عز» وبطانته على جسّ نبض الرأى العام بتسريب أخبار عن عودته للحياة السياسية، وخلال ساعات من انتشار الخبر كان «عز» يسارع إلى نفيه مؤكداً أنه لا يشغله فى المرحلة الحالية غير أحوال صناعته وحاضر ومستقبل آلاف العاملين فى مصانعه. وقد ضغطت هذه التسريبات على أعصاب المواطنين، ويبدو أن شيئاً من هذا الضغط قد تنامى إلى علم مؤسسة الرئاسة، فسارع الرئيس عبدالفتاح السيسى فى أحد لقاءاته بالإعلاميين إلى التأكيد على أنه لا عودة إلى الماضى، وأن الشعب المصرى بيده الأمر كله، وهو الذى سيقرر ما يريده.
وفجأة استيقظ المصريون بعد ثورتين كبيرتين على رموز الحزب الوطنى المنحل وقد سارعوا إلى مراكز الكشف الطبى على الراغبين فى الترشح فى الانتخابات البرلمانية، وكان على رأسهم المهندس أحمد عز وزوجته شاهيناز النجار.. وبعد ساعات من هذه المفاجأة راحت الصحف والكاميرات تتابع توافد آخرين كان من أهمهم حسين مجاور، رئيس اتحاد عمال مصر الأسبق، الذى كان آخر ظهور له فى المشهد السياسى المصرى عندما قاد مع الحاجة عائشة عبدالهادى، وزيرة القوى العاملة أثناء ثورة يناير، مظاهرة مضادة للثورة خرجت من مبنى اتحاد العمال فى شارع الجلاء، وراحت تتقدم إلى عبدالمنعم رياض، قبل أن يتصدى لها الثوار ويُرغموا كل المشاركين فيها على الهروب.
والسؤال الآن: هل صحيح أن الماضى لن يعود؟ وهل يصلح هنا الرهان على وعى الناخبين فى التصدى لرموز تخريب مصر وإسقاطهم فى الانتخابات البرلمانية؟ الحقيقة أننى قلّبت هذا الأمر على كل الوجوه، فانتهيت إلى أن الماضى الفاسد والكريه لم يرحل من الأساس، وأن كل رجال هذا الماضى اللعين ما زالوا منتشرين فى كل مفاصل الجهاز الإدارى للدولة، وأن كل ترسانة القوانين والتشريعات التى أتاحت لرجال المال والأعمال نهب مصر بالقانون، ما زالت هى ذاتها القوانين والتشريعات التى مكّنت هذه الفئة المتوحشة من تحقيق أرباح مضاعفة خلال السنوات التالية لثورة 25 يناير 2011، كما مكّنت كل الذين خضعوا للتحقيق القضائى فى جرائم نهب وفساد واحتكار، من الإفلات من أى عقاب.
نعم، الماضى الكريه بكل سطوته وجبروته وفساده لم يرحل بعد، وانهيار الأحوال المعيشية يتزايد يوماً بعد آخر، وانفجار سعار الغلاء، وخصوصاً فى فواتير الكهرباء والمياه، وتوحش رجال الإدارات المحلية فى تقاضى رشاوى من كل صاحب محل أو ورشة، يدفع الناس إلى مزيد من فقدان الأمل فى أى تغيير، ويفسح المجال لقراصنة الحزب الوطنى العائدين لشراء أصوات الملايين من الناخبين فى أول انتخابات برلمانية بعد الثورتين الكبيرتين، وهو الأمر الذى يؤكد أن المركز الرأسمالى المتوحش فى الغرب هو الذى يدير هذه الطغمة الفاسدة، وهو الذى يحركها ويضع لها آليات استعادة السيطرة على المشهد السياسى عن طريق البرلمان.
فى هذا السياق أيضاً، يبذل المركز الاستعمارى أقصى جهد لإطالة أمد الحرب الإرهابية ضد الوطن العربى كله، وفى القلب منه مصر، لأنها حرب تصب فى صالح إلهاء الدولة وإلهاء الشعب كله عن المعركة الأخرى على صعيد الاقتصاد.. وهو أمر إذا لم ننتبه له سنخرج من الحرب على الإرهاب لنجد أنفسنا فى وطن تم ترتيبه مرة أخرى على مقاس قراصنة المال والأعمال.. وعلى مقاس الرأسمالية الغربية التى ستحقق مزيداً من السيطرة على موارد مصر.. ومزيداً من إطالة أمد الفقر والتخلف والانهيار فى تربة هذا البلد.