إن العلاقة بين «المتناهى» و«اللامتناهى» من أهم الفروق الحقيقية بين الإسلام الأول برؤيته للعالم، والرؤية السحرية اللاهوتية التى تعد إحدى سمات الخطاب الدينى فى عصور التراجع؛ حيث إعادة بناء العالم طبقاً للتفكير العقلانى فى الرؤية الأولى أو إعادة بنائه طبقاً للخرافة والأسطورة فى الرؤية الثانية.
فالعلاقة بين «المتناهى» و«اللامتناهى»، أو بين الإنسان والله، تقوم فى الرؤية السحرية اللاهوتية على العلاقة بين «المتناهى» و«متناهى آخر»، وإن كان ذا قدرة أكبر، أى العلاقة بين الإنسان من جهة والساحر والجن أو الأرواح أو الأولياء أو رجال الدين أو الأئمة من جهة أخرى.
فهى علاقة تقوم على الوساطة، وقد تكون هذه الوساطة ساحراً أو مشعوذاً أو حتى رجل دين أو ولياً من الأولياء، وعندما يتعلق الأمر بالسياسة فهى تقوم على وسيط سياسى يحدد معالم الحق والباطل ويحدد الصواب والخطأ، أما الفرد فهو مجرد منفذ للتعليمات والأوامر دون تفكير مستقل ودون حرية شخصية ودون رأى شجاع أو متفرد.
فالبنية الحاكمة للتفكير الأسطورى فى الدين هى نفسها البنية الحاكمة للتفكير الاتباعى الأعمى فى السياسة؛ ففى التفكير الدينى القائم على الرؤية السحرية اللاهوتية يكون الإنسان الفرد منسحقاً أمام الوسطاء بينه وبين الله، وفى التفكير السياسى القائم على الرؤية السحرية اللاهوتية يكون الإنسان الفرد منسحقاً أمام المتحدث باسم الله على الأرض!
إن التفكير الدينى الأسطورى يضع «وسطاء» يشغلون المسافة الكائنة بين الإنسان والله، والتفكير السياسى الأسطورى يضع «وسطاء من نوع آخر» بين الإنسان والحق العملى.
ونجد فى التفكير الدينى الأسطورى وفى التفكير السياسى الأسطورى معاً، أن «الحق يُعرف بالرجال»، فرجال محددون هم مقياس الحق والحقيقة، وليس الحق قيمة فى ذاته، ولا تنبع معاييره من داخله ولا من تطابقه مع الواقع أو مع الكتاب؛ فرجال معينون إن قالوا فقد أصابوا حتى لو كان قولهم مخالفاً لكل كتاب، وحتى لو صرخ الواقع ببطلانه!
والقداسة ليست لكتاب الله ولا سنة رسوله الصحيحة، بل للمزايدين على الدين، والذين يرفعون شعاراته لفظاً ومظهراً لا سلوكاً ولا عملاً ولا دولة.
فى التفكير الدينى الأسطورى نرى القرآن للزينة المقدسة، وفى التفكير السياسى الأسطورى نرى القرآن على أسنة السيوف، وهو كلمة حق يراد بها باطل.
وفى التفكير الدينى الأسطورى يتم تقديس «الدين» أكثر من «رب الدين»، وفى التفكير السياسى الأسطورى يتم تقديس التفسير السياسى للدين على حساب مقاصده الكلية الأكثر رحابة.
وعلى عكس التفكير الدينى الأسطورى والتفكير السياسى الأسطورى، نرى الإسلام الأول لا يعطى أى مجال للوسطاء؛ فالعلاقة مباشرة بين «المتناهى» و«اللامتناهى»، أو بين الإنسان والله، ولا مجال لسلطة ساحر أو عفريت أو ولى أو رجل دين أو مرشد، ولا وجود لوسيط سياسى يحدد معالم الحق والباطل ويحدد الصواب والخطأ، ولا مجال للاتباع الأعمى؛ والحق يعرف بتطابقه مع الكتاب والواقع الخارجى المتعين، ولا وجود للمتحدثين باسم الله على الأرض، وكل البشر يصيبون ويخطئون.
إن التفكير الدينى الأسطورى والتفكير السياسى الأسطورى، كليهما يقوم على حيلة فكرية سلبية مخاتلة؛ أى مخادعة. والـخَتْل أَى الـخِدَاع.. وخَتَلَ الذِّئبُ الصَّيدَ: تَـخَفَّـى له؛ وكلُّ خادع خاتلٌ وخَتُولٌ. والـمُخاتَلة: مَشْىُ الصيّاد قلـيلاً قلـيلاً فـى خُفْـية لئلا يسمعَ الصيدُ حِسَّه، ثم جُعل مثلاً لكل شىء وُرِّى بغيره وسُتِر علـى صاحبه. (ابن منظور الأفريقى المصرى: لسان العرب). وهذا عين ما يحدث فى الرؤية السحرية اللاهوتية للعالم، حيث الوقائع العينية خافية، وأقوال قادة القطيع ترتفع وتصول وتجول وتتخفى وراء أقنعة كلمات حق يراد بها باطل، ولذا تنجح فى أن تخفى الواقع عن أعين الأتباع!
فلا فرق بين سحر السحرة بالمعنى الحرفى، وسحر قادة القطيع فى بعض المذاهب الدينية المؤدلجة، وسحر الخوارج الجدد فى السياسة؛ فكلهم (سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ) (الأعراف: 116).
لكن نجاح السحرة فى إرهاب أو استرهاب الناس، لم ينه القصة! فللقصة نهاية أخرى (فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ) (الأعراف: 118- 119).
ولا يمكن أن نستعيد فى عصرنا «عصا موسى»، لكن يمكن أن نستعيد الإسلام الأول، والعلم الحديث، والوطنية، ووحدة الصف، والأخذ بالأسباب، والتخطيط الاستراتيجى، والعمل الجاد، وهى كلها «عصا موسى الجديدة» التى ننتظرها ضد الرؤية السحرية اللاهوتية للعالم وأتباعها الذين خضعوا لأكبر عملية «تغييب» ضد الدين والوطن؛ نتيجة وقوعهم فى الرؤية السحرية اللاهوتية للعالم التى تصنع التقليد الأعمى والتعصب المطلق الانتحارى، غافلين عن أن رؤية الإسلام الأول للعالم هى التى صنعت رجالاً نبذوا التقليد واتباع البشر للبشر دون دليل أو تعقّل أو برهان.
وتلك الرؤية للعالم عندما أثرت فى أوروبا فى نهاية العصور الوسطى صنعت الإصلاح الدينى على يد مارتن لوثر، الذى رفض الوساطة بين الإنسان والله، ورفض التفسيرات المغلقة الثابتة المتحجرة التى قدمها الكهنوت للكتاب والكون.
ومن هنا كانت نقطة انطلاق أوروبا نحو عالم جديد انكسرت فيه الرؤية السحرية اللاهوتية للعالم، وبدأت رويداً رويداً تشكل لنفسها رؤية جديدة للعالم.
وللحديث بقية.