انتخاب «السيسى» رئيسا يضمن للجيش الحفاظ على استقلاليته
ماذا إذن عن تلك الحالات التى تكون فيها القوات المسلحة ضعيفة أمام نظام حكم قوى؟ تقول الدراسة: «أحياناً، يمكن أن يقوم النظام الحاكم فى الدولة بإضعاف قواته المسلحة، من خلال إظهارها وتعمد تقديمها على أنها «ميليشيات» مؤيدة للنظام، وليست مؤسسة وطنية مهمتها حماية الدولة، يمكن أن يتم ذلك الإضعاف أيضاً من خلال تعمد النظام تقليل موارد القوات المسلحة، والحد من مصادر تمويلها وإضعاف قدراتها الداخلية، للتقليل من خطر تهديدها المحتمل بالنسبة له، كان هذا هو الحال فى الدول التى شهدت العديد من الانقلابات العسكرية، وصارت العلاقة فيها بين الجيش والنظام متوترة دائماً بما يؤثر على القدرات والتماسك الداخلى للمؤسسة العسكرية، إلا أن ذلك الأمر له جانب شديد الخطورة يصعب تجاهله، فالحد من قدرات الجيش خوفاً من احتمال قيامه بانقلاب على السلطة، يحد أيضاً من قدراته على المواجهة والحركة والحرب، بما يجعل المؤسسة العسكرية عاجزة عن الدفاع عن الدولة، أو عن النظام الحاكم نفسه، وهكذا، فإن الحالة الداخلية للجيش لا تعكس فقط الطريقة التى ينظر بها النظام الحاكم فى الدولة إلى المؤسسة العسكرية فيها، ولكنها تكشف أيضاً عن الطريقة التى يمكن أن تتحرك بها القوات المسلحة فى أوقات الأزمات، سواء كانت تهديداً داخلياً، أو مواجهة خارجية».
وتتابع الدراسة: «كل من الجيش المصرى والتونسى لم يتخذ صف النظام الحاكم ضد المتظاهرين فى الثورات. وبدا أن القوات المسلحة تستجيب لأوامر الشعب، وليس للنظام الذى كانت تتعاون معه بإخلاص. كان هذا يعنى أن تصرّف الجيش يتفّق مع التصوّر المثالى الذى يمتلكه الغرب حول الجيش الاحترافى، والمتماسك. هذا التصور يرى أن الجيش المثالى من وجهة النظر الغربية، هو ذلك الجيش الذى يجمع بين الاحترافية، والولاء للدولة كمبدأ فى حد ذاته، وليس لنظام بعينه. هذا النموذج يعنى أن الجيش لا يتدخل فى الشئون السياسية، فى الوقت الذى يحافظ فيه على قدراته وإمكانياته القتالية. وهو يرى نفسه، كما يراه الناس، تجسيداً لفكرة الدولة، وليس النظام، خاصة أنه لعب دوراً جوهرياً وأساسياً فى تكوين هذه الدولة التى يعمل من أجل حمايتها والحفاظ عليها».[FirstQuote]
وتواصل: «وفى لحظات التغييرات والاضطرابات الاجتماعية والسياسية الفارقة، كما حدث فى ثورات الربيع العربى، بدا من الواضح أن قوة الجيش تسمح له بأن يبعد نفسه عن النظام الموجود فى السلطة، وأنه يملك ما يكفى من القوة، والتماسك الداخلى، والثقل الاجتماعى والسياسى الذى يسمح له باتخاذ مثل هذه الخطوة، خاصة أنه يعلم أن بقاءه ليس مرتبطاً بوجود أو استمرار النظام».
وتتابع: «اختار الجيش المصرى ألا يأخذ صف الرئيس مبارك ضد المتظاهرين، ليس فقط لأنه كان يملك القدرة على ذلك، ولكن أيضاً، لأنه كان لاعباً يتمتع بدرجة عالية من المصداقية فى أعين المتظاهرين. كانت هذه المصداقية ترجع فى جزء منها، إلى الدور الذى لعبه الجيش فى التاريخ المصرى الحديث منذ عهد محمد على. بل إن القوات المسلحة المصرية تجسد إحساس المصريين بأن دولتهم دولة عريقة، أسست نفسها بنفسها، وليس بواسطة بعض القوى الاستعمارية الغربية كما حدث فى بعض الدول المجاورة. وازداد إحساس الشعب بتداخل فكرة الدولة مع المؤسسة العسكرية، مع الدور الذى لعبه الجيش منذ الإطاحة بالملكية عام 1952، وتدخله فى السياسة بدرجات متفاوتة تحت حكم ثلاثة رؤساء كلهم له خلفية عسكرية، وحتى دوره الفعال فى إنهاء حكم كل من (مبارك) عام 2011، و(محمد مرسى) فى 2013».
وتواصل: «هذه المكانة التاريخية الفريدة التى يتمتّع بها الجيش المصرى، إضافة إلى المسافة التى يحافظ عليها بينه وبين السياسات الداخلية، واحترافيته الواضحة، كلها ساعدته على أن يصبح فى منطقة تعلو على السياسات الصغيرة، لكنها شديدة الإخلاص لمصر كأمة ودولة. وعلى المستوى الداخلى، كانت هذه المساحة سبباً فى أن يعمل الجيش وفقاً لمعاييره العسكرية الاحترافية الخاصة، وأن يكون لديه سيطرة كاملة على كيفية تعيين وتدريب أفراده، إضافة إلى الحفاظ على تماسكه الداخلى. كل هذا جعل الجيش المصرى قادراً على التدخّل والتحرّك فى أحداث 2011 و2013، خاصة أنه كان يتمتع بدعم شعبى كافٍ لهذا التحرك».
وتصل الدراسة إلى اللحظة التى تم فيها عزل «محمد مرسى» بعد مظاهرات حاشدة فى الشوارع تطالب برحيله، وتدخل الجيش على أساسها. تقول: «والواقع أن تحرك الجيش المصرى لإنهاء حكم الرئيس الأسبق محمد مرسى، بعد أسابيع من مظاهرات حاشدة تطالب بعزله فى 2013، كان راجعاً فى الأساس وبقوة، إلى حس الجيش الوطنى. لقد كان التوجّه الإسلامى القائم على أساس دينى الذى أظهرته جماعة الإخوان، وعلاقاتها بمنظمة (حماس) على وجه التحديد، كلها أمور تقف فى تناقض واضح وصارخ لوطنية الجيش التى تتمحور حول مصر كدولة. وبهذا، فإن الجيش المصرى لا ينظر إلى تحركه فى 2013 على أنه (انقلاب) أطاح بنظام حكم، ولكن على أنه تحرك يهدف إلى حماية الدولة، والحفاظ عليها، بعد الإطاحة بحكومة فاسدة، وغير فعالة ولا مؤثرة. قال الجيش إنه ينوى العودة إلى ثكناته، لأنه لا يريد إلا الحفاظ على حريته واستقلاليته كمؤسسة، والاحتفاظ بدوره كرمز للوطنية المصرية. ويبدو أن انتخاب (عبدالفتاح السيسى) رئيساً للجمهورية يضمن للجيش الهدفين معاً، كما يضمن للجيش الاستمرار فى دوره كمدافع وحامٍ لمصر، بالشكل الذى صار يرمز إليه ذلك الإعلان الذى انتشر فى الشوارع وعلى الجدران فى القاهرة، مظهراً جندياً يحمل طفلاً، وتحته شعار (الجيش والشعب إيد واحدة)».
وتتابع الدراسة: «لقد كشفت الأحداث المتلاحقة منذ عام 2011، عن أن القوات المسلحة يمكن أن تسهم بفعالية فى تغيير نظام ما، ولفتت الأنظار أيضاً إلى أن غياب الجيش عن الساحة السياسية لا يعنى بالضرورة غيابه الفعلى أو إزاحته عن السياسة. ستظل القوات المسلحة فى مصر، والدول العربية، تتحرك كلاعب مؤثر على الساحة السياسية. هذا لا يعنى تدخلهم المباشر فى السياسة، وإنما ضرورة مساهمتهم فى أى تغيير بشكل أو بآخر، ليس فقط بسبب قوة قدرات الجيش وتماسكه كمؤسسة، وإنما أيضاً، بسبب تلك الظروف السياسية شديدة الاضطراب والخطورة، التى يتحرك فيها حالياً».
وتخلص الدراسة إلى أنه: «لا بد إذن، أن تدرك الدول المانحة فى الاتحاد الأوروبى، تلك التى تربط مساعداتها بضرورة إبعاد الجيش عن السياسة، أن تأخذ فى اعتبارها ذلك الدور الذى تلعبه القوات المسلحة خارج إطار مهامها العسكرية الأساسية. إن القوات المسلحة لا تتحرك حالياً فقط لأنها قادرة على ذلك، وإنما أيضاً، لأن باقى القوى السياسية غير قادرة على ذلك التحرّك، مما يزيد من صعوبة حل مسألة تورّط الجيش فى السياسة، الذى لا يمكن أن يتم بغير مؤسسات مجتمع مدنى قوية فى الدولة التى يتحركون فيها».