الجيش يعمل وسط تحديات أمنية تفرض عليه السرية باعتباره فى «زمن حرب»
وتلفت الدراسة الأمريكية، النظر إلى أن: «غياب مثل هذه الوثيقة المفصلة لا يعنى أن تلك الدول لا تملك (استراتيجية) للأمن القومى، هى فقط لا تصيغ وثيقة أساسية، متاحة للجميع، تفصل هذه الاستراتيجية التى يُفترض أنها تنشأ عن حالة من الحراك والجدل بين المؤسسات المختلفة، ويمكن الاسترشاد بخطوطها الأساسية، كمرجعية يتم اللجوء إليها عند اتخاذ كل القرارات التى لها علاقة بالأمن القومى. هذا الغموض فيما يتعلق بالهدف لا نجده فقط عند الحديث عن الأمور المتعلقة بالدفاع، وإنما صار موجوداً على المستوى الأمنى بشكل عام، خاصة أن القوات المسلحة صارت فى أكثر من موضع، تقوم بمهام قوات الأمن الداخلى، مثل تأمين الانتخابات، أو السيطرة على أحداث الشغب، منذ ارتباك الأوضاع الداخلية الذى صار سائداً منذ أحداث 2011، وهو أمر يُلقى بظلاله السلبية على كل القطاعات العاملة فى المجال الأمنى، وليس على القوات المسلحة وحدها.
وتواصل: «وهكذا، يمكن القول إن إحدى نقاط البدء عند الحديث عن إصلاح المؤسسة العسكرية يمكن أن يكون من خلال صياغة وثيقة محدّدة لاستراتيجية الأمن القومى، إضافة إلى وثائق توضح طبيعة مهام عمل كل مؤسسة أمنية داخل المجتمع، بما فيها الجيش».
وتضيف: «إن النقطة الثانية التى يمكن أن تزيد من صعوبة إصلاح المؤسسة العسكرية، هى تورط الجيش أكثر من اللازم فى السياسة الداخلية. كل من الجيش التونسى واليمنى أسهما فى تغيير النظام الحاكم فى بلديهما من خلال الوقوف فى صف المتظاهرين. وأسهم الجيش المصرى فى تغيير نظام حكم رئيسين، أحدهما سلطوى والآخر منتخب. ويمكن القول إن هناك عدة أسباب تدعو الجيش إلى التدخل فى الشئون السياسية للبلاد، خاصة فى حالة وجود دولة أو حكومة ضعيفة، يمكن أن تعد هدفاً سهلاً بالنسبة لأى جيش يسعى للتدخل فى السياسة الداخلية».
وتتابع الدراسة الأمريكية: «لكن تدخل الجيش بشكل أكثر من اللازم فى السياسة يمكن أن تكون له آثار سلبية على أداء المؤسسة العسكرية ككل، وكذلك على تقدّم العملية الديمقراطية فى البلاد. فمن ناحية، يتسبّب هذا التدخل فى تشتيت المؤسسة العسكرية عن عن هدفها الرئيسى وهو الدفاع عن الدولة، وقد يؤدى أيضاً إلى عدم تماسك الجيش، وربما يفتح باب الفساد فيه. وكانت هزيمة 1967 التى انهزم فيها الجيش المصرى أمام إسرائيل، مثالاً صارخاً على التأثير السلبى الذى يمكن أن يتسبّب فيه تدخّل الجيش فى السياسة. وهكذا فإن إبعاد أى مؤسسة عسكرية عن السياسة يصب بالنهاية فى مصلحتها، من الناحية المهنية على الأقل».[FirstQuote]
وتواصل الدراسة: «إن غياب الرقابة المدنية على الجيش يمثل عاملاً إضافياً يقف فى طريق إصلاحه، خاصة أن الرقابة المدنية على الجيش فى غالبية الدول العربية، هو أمر غائب غير موجود، أو سيئ النية فى حالات أخرى. عادة ما يتحوّل إشراف الأطراف المدنية على الجيش إلى مجرد مجموعة من الأساليب المدروسة، التى تهدف إلى إضعاف جوانب معينة من القوات المسلحة، بحيث تحد من قدرتها على القيام بانقلاب عسكرى يمكن أن يصل بها إلى الحكم، وليس الحرص على قيام القوات المسلحة بدورها على أكمل وجه، دون أن تمثل تهديداً سياسياً إلا فى أضيق الحدود، خاصة أن الرقابة المدنية تقدم أفضل نتائج لها عندما تكون فى صورة إشراف برلمانى، ودراسة لكيفية إدارة قطاع الدفاع، مع مراعاة الأطر التشريعية والمؤسساتية الواضحة، وهى كلها معايير مفقودة فى العالم العربى».
وتتابع: «تبدو الأمور أكثر تعقيداً فى مصر، التى مرت بالعديد من التغيرات منذ سقوط (مبارك)، ولكن دون أن يمس أى من هذه التغييرات منطقة الرقابة الغامضة على أنشطة القوات المسلحة، بل يبدو أن الجيش هو الذى يتولى الرقابة على المدنيين وليس العكس، فمثلاً، لا بد أن تتم الموافقة على تعيين وزير الدفاع من قِبل المجلس الأعلى للقوات المسلحة، ومن الممكن محاكمة المدنيين أمام محاكم عسكرية، وعلى الرغم من أن البرلمان يملك الحق فى الإشراف على ميزانية الدولة، إلا أن هذا لا يشمل ميزانية الدفاع التى تخضع لإشراف مجلس الدفاع الوطنى».
إلا أن الدراسة الأمريكية أيضاً، تتفهّم المنطق الذى يقف وراء حذر الجيش المصرى، وتوجُّسه من الرقابة المدنية على أنشطته فى هذه الفترة السياسية المضطربة. تقول: «لكن الواقع، أن أحداً لا يمكنه أن يُنكر أن الاحتياطات التى تتخذها المؤسسة العسكرية لتأمين نفسها من تدخّل المدنيين فى شئونها، هو أمر مبرر، وله أسبابه. ففى مثل تلك الدول التى تكون المؤسسات المدنية فيها ضعيفة، وتكون الوساطة والمحاباة فيها أمراً معتاداً، وتخضع فيها عمليات ومؤسسات صنع القرار لتحيّزات الأشخاص، عندها يمكن أن تصبح استراتيجية تطوير الدفاع، وحتى صفقات شراء السلاح، عرضة للتدخّل السياسى غير المحسوب أحياناً. وحتى فى الحالات التى يتم فيها انتخاب أعضاء البرلمان من خلال عملية ديمقراطية كاملة، يعانى هؤلاء الأعضاء عادة من نقص الخبرة والمعرفة اللازمتين للقيام بالمهام المطلوبة منهم، سواء فى الرقابة أو فى المتابعة. من الصعب أيضاً أن يكون لديهم فرق العمل اللازمة لتنفيذ تلك المتابعة، وهو ما ظهر واضحاً مثلاً فى حالة ليبيا، التى عجز البرلمان المنتخب فيها بعد الثورة، عن متابعة أداء الجيش».
وتواصل: «على أن السبب الأهم، الذى يجعل القوات المسلحة حذرة من الإشراف أو الرقابة المدنية عليها، هو أنها تعمل بالفعل وسط مناخ من الصراعات والتحديات الأمنية، التى تفرض عليها ضرورة التزام السرية والتكتم على تحركاتها باعتبارها فى زمن حرب، الأمر الذى يستوجب الحد من تدخُّل الأطراف المدنية فى شئونها وسير أعمالها، خاصة أن عدداً كبيراً من دول المنطقة العربية ما زالت تواجه تحديات أمنية كبرى، تعوق أى محاولة للإصلاح، بداية من الاضطرابات الداخلية، وحتى الإرهاب، مروراً بآثار ما بعد الأزمات والثورات التى طحنت البلاد بشكل كبير».
مصر تحديداً كان لها نصيب كبير من هذه الاضطرابات الداخلية، كما ترى الدراسة، تقول: «شهدت مصر تحديداً، فوضى داخلية واسعة النطاق منذ 2011، تنوّعت ما بين المظاهرات والشغب والعنف فى الشوارع. وارتفعت معدلات الجريمة بمعدل ثلاثة أضعاف، ما بين الخطف وسرقة السيارات والسطو المسلح. ووضعت التهديدات الإرهابية ضغطاً إضافياً على قوات الأمن، خاصة أنها لم تعد مقصورة على سيناء، وإنما امتدت لتشمل مناطق أخرى من البلد، وتسقط 281 قتيلاً مصرياً ما بين يوليو 2013 ويناير 2014، أى أن عددها تضاعف 10 مرات عن حجم ضحايا الإرهاب الذين سقطوا فى العام الذى قضاه «مرسى» فى السلطة. كما أن هناك دائرة اقتصادية مفرّغة، تزيد من صعوبة إصلاح الأجهزة الأمنية التى تعمل فى ظروف اقتصادية شديدة الصعوبة، تزيد من صعوبة قيامها بمهامها الأساسية، التى يعنى فشلها فيها بالتالى، مزيداً من الصعوبات الاقتصادية عليها وعلى البلاد التى تعمل فيها».