إن تجديد المسلمين يقتضى أول ما يقتضى تغيير رؤية العالم World view فى مخيالهم؛ لأن هذه الرؤية هى الأساس النظرى للفهم والتفكير، وهى التى تضع المحددات التى فى ضوئها يتشكل الفعل وطرق التعامل والتفاعل مع العالم المحيط وعناصره.
ورؤية العالم فى تصورى -ولا يعنينى هنا إن كنت متفقاً أو مختلفا مع إمانويل كانط أو وليلهام دلتاى أو غيرهما- أقول رؤية العالم هى الإطار العام الذى نفهم به كل ما يحيط بنا: الكون، الحياة، الناس، مستويات الوجود، الثقافات العالمية، بل هى الإطار الذى نفهم به أنفسنا أيضاً؛ لأن رؤية العالم هى المجموعة الأساسية من التصورات الافتراضية عن العالم وتتضمن فى داخلها كتلة المعتقدات الكلية التى يحيا بها الإنسان، وفى ضوئها يضع الوعى الجمعى للناس علاقاتهم مع العالم، ونجد لها انعكاسات واضحة على الحياة الأخلاقية والاجتماعية والسياسية.
وعلى هذا فإن وظيفة الرؤية هى وظيفة معرفية، وهى نقطة البدء فى تغيير المسلمين؛ فالمسلمون اليوم -أو أغلبهم- ببساطة يملكون رؤية عقيمة عن العالم، وهى رؤية تتقاطع مع الرؤية السحرية اللاهوتية للعالم (التى حاربها الإسلام الأول لكن المسلمين فى عصور التراجع ارتدّوا إليها)، وهذه الرؤية السحرية لا تخرج عن مجمل رؤية العصور الوسطى الأوروبية. والغرب والشمال والشرق الأقصى يتقدمون علينا لأنهم ثاروا على هذه الرؤية السحرية اللاهوتية، وكافحوا من أجل تكوين رؤية علمية للعالم. وهذه الرؤية هى الأساس النظرى لكل مكتسباتهم العلمية والحضارية وتفوقهم علينا فى التكنولوجيا، والعلوم الاجتماعية، والطبيعية، والفنون، والعلوم التطبيقية.
إن الرؤية السحرية تقوم على رؤية العالم محكوماً بالسحر والسحرة والجن والعفاريت والأشباح والأعمال السفلية تارةً، والتدخلات الغيبية الخارقة تارةً أخرى. أما قوانين الطبيعة فهى شىء طارئ وثانوى، والعلوم الرياضية والطبيعية من النوافل فى التعامل مع الكون، وأيضاً العلوم الإنسانية والاجتماعية هى آخر شىء يمكن اللجوء إليه لحل مشاكل المجتمع أو الفرد، بل هى غير حاضرة فى أى منهج يدرس العلوم الدينية التى تعتمد كلية على النقل والحفظ والترديد، والعالم باختصار محكوم بقوى غيبية تربط وتنظم الأشياء بصورة منافية للقوانين العلمية التى تحكم الطبيعة فى الرؤية العلمية. ومن هنا تكون الردة -دون وعى- إلى تصورات الأديان السحرية التى نبذها الإسلام.
ولنقف قليلاً عند الفروق الحقيقية بين الإسلام الأول والرؤية السحرية التى تعد إحدى سمات الخطاب الدينى فى عصور التراجع، وهذه الفروق -من وجهة نظرنا- تكمن فى الجوانب الآتية:
1- يعتمد السحر على التأثير فى الأشياء عن طريق كائنات شيطانية أو أرواح أو تعاويذ أو كلمات أو قوى غيبية كامنة فى بعض الأشياء المادية، أما الإسلام الأول فينص على أن كل شىء فى الكون خاضع لقانون السببية Principle of Causality، وهو المبدأ الذى يقرر أن لكل ظاهرة سبباً، وأن لا شىء يحدث من لا شىء، وكل ما يظهر للوجود فلوجوده علة، وأن الأسباب تتبعها النتائج المترتبة عليها.
والسببية من مبادئ الطبيعة، وأيضاً من مبادئ الفكر، وهى مبدأ قرآنى راسخ، فالله سبحانه، كما يقول ابن القيم: «ربط الأسباب بمسبباتها شرعاً وقدراً، وجعل الأسباب محل حكمته فى أمره الدينى والشرعى وأمره الكونى القدرى ومحل ملكه وتصرفه؛ فإنكار الأسباب والقوى والطبائع جحد للضروريات وقدح فى العقول والفطر ومكابرة للحس وجحد للشرع والجزاء؛ فقد جعل سبحانه مصالح العباد فى معاشهم ومعادهم والثواب والعقاب والحدود والكفارات والأوامر والنواهى والحل والحرمة، كل ذلك مرتبطا بالأسباب قائماً بها، بل العبد نفسه وصفاته وأفعاله سبب لما يصدر عنه، بل الموجودات كلها أسباب ومسببات. والشرع كله أسباب ومسببات، والمقادير أسباب ومسببات، والقدر جار عليها متصرف فيها؛ فالأسباب محل الشرع والقدر. والقرآن مملوء من إثبات الأسباب.. ولو تتبعنا ما يفيد إثبات الأسباب من القرآن والسنة لزاد على عشرة آلاف موضع، ولم نقل ذلك مبالغة بل حقيقة، ويكفى شهادة الحس والعقل والفطر؛ ولهذا قال من قال من أهل العلم: تكلم قوم فى إنكار الأسباب فأضحكوا ذوى العقول على عقولهم، وظنوا أنهم بذلك ينصرون التوحيد فشابهوا المعطلة...» (ابن القيم، شفاء العليل فى مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل).
ومن هنا يجب إعادة ضبط هذا العنصر فى رؤية العالم التى يجب أن ينطلق منها أى خطاب دينى جديد، باستبعاد الرؤية السحرية المنكرة للسببية من طرق تفكير المسلمين، واستعادة الرؤية العلمية التى حكمت تقدم طرق التفكير العلمى والتى أدت إلى تقدم العلوم الرياضية أولاً، ومن بعدها العلوم الطبيعية، ثم العلوم الاجتماعية والإنسانية، التى أكدها التصور القرآنى للعالم بوصفه محكوماً بالسببية الطبيعية وليس بقوى سحرية أو ميتافيزيقية خارقة.
والمسألة هنا لا تتعلق فقط بالعلم وطرق إنتاجه، بل تتعلق بضرورة تغيير طرق تفكير الناس العادية فى الحياة اليومية وفى العمل والمجتمع والسياسة، ومن ثم يجب فض الانفصام بين العلم الذى يُدرس فى الكتب وطرق تفكير رجل الشارع والمشتغل بالدين أو الإعلام أو غيره من منابر الرأى والتعليم والثقافة.
وللحديث بقية..