كانت ثورة.. ولكنها كانت أيضاً مؤامرة.
كنا قبل أيام وأسابيع وشهور من صباح 25 يناير 2011 قد أدركنا أن الطغمة الحاكمة فى مصر لم تعد صالحة لأى شىء، غير الدهس تحت الأحذية فى الميادين والشوارع وداخل قصور الحكم المسوّرة بحراس شديدى القسوة والجبروت. وكنا قد أدركنا أن الذين سرقوا العافية من شرايين الشعب لم يعد يجدى معهم، غير مواجهة دامية تكسحهم مثل النفايات إلى المقابر والسجون والمنافى، وتسترد الموارد والأموال التى نهبوها، وتنقذ ما تبقى من صروح صناعية وخدمية كانت فى طريقها إلى الدمار بفعل فاعل اعتاد أن يضع كبرى الشركات العامة على طريق الخسارة، تمهيداً لطرحها فى سوق النخاسة الدولية، وكنا قد أدركنا أن مسئولين كباراً فى الدولة تحولوا إلى مجرد «سماسرة» فى سوق الخصخصة وأن عمولة بيع الشركة أو المصنع كانت هى الشرط الأساسى فى تمرير الصفقة لهذا القرصان أو ذاك الشيطان.
كان كل مواطن عادى فى هذا البلد لديه مئات الأسباب لكراهية نظام مبارك، وينتظر فرصة مواتية يخرج فيها ويشارك فى القصاص من كل رموز هذا النظام الفاسد، حتى أبناء الشريحة العليا من الطبقة المتوسطة الذين لم يندمجوا كلياً فى منظومة فساد مبارك، كانوا، رغم الستر الهش الذى تبقّى لهم، على يقين كامل من أن استمرار هذا النظام أكثر من ذلك سيؤدى إلى كشف سترهم، وسيحطم ما تبقى لهم من أمان وكرامة إنسانية، وكانوا يشاهدون بفزع وقائع التزوير والنصب والتلفيق والتعذيب التى يرتكبها أفراد هذا النظام ليلاً ونهاراً، ويتمنون أن يأتى اليوم الذى ينتفض فيه هذا الشعب ويتخلص من هذه القمامة البشرية قبل أن يختنق الوطن كله تحت ثقلها الكريه والرهيب.
أما الأخطر من كل هذا، فهو أن قطاعاً واعياً من هذا الشعب كان ينظر إلى مشروع توريث حكم مصر من مبارك إلى ابنه جمال بوصفه إهانة لا تُغتفر، وجلافة سياسية غير مسبوقة اخترقت كل الخطوط الحمراء، وخصوصاً أن «الأسرة» التى استهانت بهذا الوطن وتاريخه ومكوناته الثقافية والمهنية كانت تبدى احتقاراً ظاهراً ومكشوفاً للشعب المصرى، وكانت تتعامل معنا وكأنها توافق مرغمة على أن يتولى شئون الخرابة التى نعيش فيها ابنها المصون الذى تجرى فى عروقه دماء إنجليزية من ناحية الأم، وكان هذا «الفتى» الذى لم تطلع عليه شمس أيامنا أبداً، قد أحاط نفسه بعصبة فاسدة تعمل رسمياً لصالح المركز الرأسمالى المتوحش، وتدير مصر كما لو كانت «مزرعة» ينبغى أن تعود ملكيتها إلى الاستعمار الغربى، وتنظر إلينا باعتبارنا عبيداً فى مزرعة أسيادهم.
لهذه الأسباب وغيرها كانت «25 يناير 2011» ثورة شعب ضد نظام مستبد فاسد.. ولكننا لم ندرك آنذاك، واحتجنا إلى شهور وسنوات ووقائع وأدلة لكى ندرك أخيراً، أنها كانت أيضاً مؤامرة، وأن لاعباً كونياً خطيراً كان ينشر أذرعته مثل أخطبوط غادر، لكى يدير الأمر كله لصالحه، ولكى يعيد ترتيب الأوراق وفقاً لخريطة «تجديد أدوات النهب الاستعمارى».. ولأن هذا اللاعب يملك خبرات إفساد الثورات وركوبها، وسبق له أن فعلها عشرات المرات، فقد نجح نجاحاً فائقاً فى تحويل الثورة إلى ورشة عملاقة لصناعة الأنقاض، وكان أن صحونا خلال 4 سنوات فقط من عمر ثورات الربيع العربى على عدد من دولنا وقد تفككت إلى دويلات، وتحولت جيوشها النظامية إلى ميليشيات متحاربة تذهب مع مَن يدفع أكثر، حتى الدول التى وقفت الثورات على مشارفها -مثل دول الخليج- اضطرت تحت تهديد الخوف من «عدوى المؤامرة»، إلى ضخ النفط بأكثر مما تحتاجه أسواق الغرب، فانهارت أسعار أهم مواردها الاقتصادية، فى الوقت الذى نجت فيه شركات السلاح الغربية من الإفلاس بعد أن تضاعفت مبيعاتها للجيوش الكافرة الجوّالة فى أنحاء الوطن العربى، والتى تغولت فى دمائنا وأعراض نسائنا وحطمت فى طريقها كل أسباب الحياة فى أدنى درجاتها أماناً وكرامة!
لهذا.. لم أعد قادراً على الاحتفال بذكرى هذه الثورة، لأن ما تخلّف عنها من دمار وخراب ومآس إنسانية رهيبة لا يليق به غير طقوس إحياء ذكرى فاجعة مؤلمة.. ذكرى خروج مهيب تخيلناه ثورة، فإذا به ينحط إلى درك المؤامرة، وإذا بنا نعود من السعى النبيل وفى أحشائنا ثمرة خطيئة لا نعرف كيف ولا أين سنتخلص منها؟.