مقهى ونادٍ وكشك.. دولة "الصم والبكم" في وسط البلد
دائرة نقاشية يجدون فيها دفء التجمع، يلوحون بيديهم لوصف مشكلة ما، بينما تتعالى صيحاتهم ليصل صداها إلى الجوار، وجوههم مصرية بسيطة، يدققون في وجه القادم إذا كان غريبًا، إلا أنهم يحاولون التواصل معه بكل الطرق، تصطف حولهم "الشيشة" والمشروبات الساخنة التقليدية التي تباع في المقاهي المصرية الأصيلة من شاي وسحلب، لا يلفتون الأنظار إلا بأعدادهم الكبيرة حول عدة طاولات، مشكلين دائرة بيضاوية، في أحد الشوارع الجانبية، يجلس "البكم"، على قهوتهم في وسط البلد.
بواسطة ورقة وقلم، تم التواصل بسهولة مع البكم، فتارة يمكن لبعضهم التحدث بروية، وتارة أخرى يجب التواصل كتابيًا، مصطفى رمضان، سكرتير عام النادي الاجتماعي الثقافي للبكم، الموجود بوسط البلد، كان أحد الراغبين بشدة في التواصل من أجلهم، "لم نختر الجلوس على هذه القهوة، فهناك العديد من المقاهي التي نجلس عليها في القاهرة والمحافظات الأخرى"، لكن لتلك القهوة عدة مميزات، أهمها قلة المصاريف التي يدفعونها مقابل المشروبات، بالإضافة إلى قربها من ناديهم بوسط البلد، والسهر عليها إلى وقت متأخر من الليل.
ارتبط الجلوس في القهوة في البداية بأيام الأحد والخميس والثلاثاء، نفس الأوقات التي يفتح فيها النادي أبوابه، أما الآن وبعد أن افتتح طوال أيام الأسبوع، أضحت القهوة هي مكان السمر معظم أيام الأسبوع، منذ ما يقرب من 20 عامًا وهي وطن لهم يعيشون فيها ويهيمون مع بعضهم البعض مستخدمين يديهم في تشكيل حركات لا تعني أغلب الناس إلا أنها ذات أهمية كبيرة بالنسبة لهم، "أعضاء النادي يسهرون في القهوة لأن بها خدمات ليست موجودة ولا يجدونها هنا منها الشيشية والسهر"، بحسب ما قاله رمضان، عضو المجلس القومي لشؤون الإعاقة.
يقدم النادي، الذي يخضع لإشراف جمعية الصم والبكم، العديد من الخدمات بأسعار رمزية، 60 جنيهًا سنويًا أو 2 جنيه في اليوم، سواء اجتماعية أو ثقافية، فهو يتيح للخرس خدمات الإنترنت طوال الوقت، بالإضافة إلى تنظيم عدد من الرحلات السنوية من مصايف، ويقوم في الأساس على الجهود الذاتية واشتراكات الأعضاء، دون دعم من الدولة، "بدون دفع المصاريف لن نتمكن من توفير الخدمات العامة والمرافق، وعمل الرحلات والمصايف والخدمات الإدارية"، إلا أن القهوة تصر دائمًا على خطف الأضواء من النادي.
"منقدرش نجبر أعضاء النادي على عدم الجلوس على القهوة دي حرية شخصية، لكن للنادي ضوابط"، يكمل رمضان حديثه بعد قراءة الاستفسار في ورقة، يمسح أذنيه ويستمع للمحيطين به، أو ينظر لهم ويستطرد محاولًا إيصال وجهة نظرهم، الإعلام بالنسبة لأغلب الفئات التي تعيش في الظل والبسيطة بمثابة "القشة" التي تنقذ الغريق، "أنشانا النادي منذ 54 عامًا حينما كان للخرس حقوق يريدونها، وتوسع الآن ليضم أكثر من 650 عضوًا في القاهرة وحدها، يقدم خدمات صحية ودينية وترفيهية"، وفقًا لـ"رمضان".
على مقربة من القهوة، يقف داخل الكشك الخاص به، هيئته لا تشبه كثيرًا أصحاب الأكشاك، فهو في الأغلب موظف حكومي، يقف إلى جوارهم يحاورهم بلغة الإشارة وكأنه أحد رجال المجموعة، يحفظهم جميعهم، "الخرس ليهم طابع خاص شوية ولازم تكون طويل البال معاهم، أنا بتعامل معاهم من أكتر من 35 سنة"، بحسب عصام إسماعيل، الموظف في وزارة الري، وصاحب الكشك الذي كان في وقت ما وسيلة للتواصل معهم بشرائهم منه، "مع الوقت اتعلمت لغتهم من كتر التعامل معاهم".
عن طريق الإشارة تواصل "البكم" مع إسماعيل، فمن خلالها يعرف الطلب إذا كان مشروبًا أو كيسًا من الشيبسي، "مع الوقت اكتسبت معاهم صداقات وعرفت أن ليهم كبير دايمًا بيلجأوله وقت الأزمات والمشاكل اللي بتقع بينهم" على الرغم من عدم قدرتهم على السمع بشكل جيد إلا أن الأصوات العالية أشد ما يزعجهم وهو ما جعلهم يجلسون على تلك القهوة في شارع جانبي، بالإضافة إلى عصبيتهم الزائدة، وفق "إسماعيل"، إذا تعرضوا لمضايقات من المارة أو الجالسين بالجوار، وهو ما تحميه منهم القهوة في هدوء، فكان العامل النفسي هو الجاذب الأكبر للجلوس على تلك القهوة.
يمسك بصينيته ويتحرك بخفة بين الطاولات المتراصة في الشارع، بينما يرفع أحد البكم يده للفت نظره، وعندما يصل إليه يخفض صوته تمامًا وعوضًا عن ذلك يرفع يديه ليتحدث معه، حركة شفتيه هي الرابط الرئيسي بينهما، المعلم عنتر، أحد أهم عناصر القهوة بالنسبة للبكم، "اللي بيطلب شاي أو أي مشروب بيعمل بحركات معينة بفهمها وبحفظها"، يصف "المعلم عنتر" طريقه تواصله مع زبائنه من البكم.
حركات على البطن وفي الهواء تحكي تفاصل الشاي السادة، و"السكر برا"، والحلبة، والقهوة ونوع الشيشة، لا يحتاجون إلى وسيط داخل قهوتهم، صهللة، والمشهورة باسمهم "قهوة البكم"، من التاسعة مساءً وحتى الثانية بعد منتصف الليل، يتابعهم المعلم عنتر، خاصة حينما تزداد أعدادهم بشدة ويملأون القهوة كلها، "إحنا بنحاسبهم بنص التمن، لأنهم زبايننا من سنين، وكل اللي في القهوة يعرفوهم، وبيتعاملوا معاهم كأنهم أصحاب مكان"، بحسب المعلم عنتر.