مع مرور أكثر من 14 قرناً على ظهور الإسلام، لا تزال الفجوة واسعة بين الإسلام والمسلمين، فالإسلام (قرآناً وسنة صحيحة) يقدم نموذجاً عالمياً للدين الذى يلائم الطبيعة الإنسانية، ويعترف بالتنوع الكونى والإنسانى، ويعتبر التعددية سُنة إلهية، ويميز بوضوح بين البشرى والإلهى.
إن الإسلام دين يؤمن بالتطور والتغير، ويعطى مساحات واسعة للاجتهاد البشرى ومراعاة المصالح المرسلة، والاستحسان... إلخ، بينما المسلمون يعيشون فى جمود فقهى منذ أكثر من سبعة قرون، وفى خطاب وعظى إنشائى فارغ ومنفصل عن حياتهم اليومية. ولا يزال المسلمون يخلطون بين موروثاتهم الاجتماعية التى ورثوها من بيئتهم وبين التصور الإسلامى النقى المستمد من القرآن العظيم والسنة المطهرة الصحيحة، وهم يخلطون بين العبادة الحق والعبادة المزيفة، فلا يزال الكثيرون منا يقيمون علاقتهم مع الله من خلال الطقوس والمظهر فقط، وينسون المعاملات والصدق والالتزام والدقة وإتقان العمل. وهذا الفريق يظن أن النجاة فى الدنيا والآخرة تتوقف على بعض المظاهر الشكلية والأقوال الجوفاء، وليس من خلال الالتزام والمسئولية، فسبيل الخلاص عندهم فى الشعارات والالتزام الصورى والمظهرى، وليس فى ممارسة العمل البنّاء فى تنمية بلادهم والعالم، وهم يخلطون بين العبادة الحق فى الدين والتى تقيم علاقة فعالة بين الإنسان والله فتمده بدافع شخصى متجدد لممارسة دوره فى إعادة بناء العالم، وبين العبادة المزيفة التى يمارسها المراؤون، أو التى يمارسها الذين يخدعون أنفسهم ويظنون أنهم يسترضون الله تعالى بأداء بعض الطقوس ثم يسعون فى الأرض فساداً؛ فيغشون ويكتمون الشهادة ويشيع بينهم عادة النفاق والرياء وسيادة مبادئ الإهمال والغدر وعدم الالتزام بالوعود!
كما يخلط كثير من المسلمين بين معتقدهم الدينى ومواقفهم السياسية ذات الطابع الإنسانى المتغير. إن الإسلام يشتمل على أصول تحقيق العدل والإنصاف. هذا شىء لا شك فيه، لكن الخطل يكمن فى أن يعتبر البعض أن مواقفهم السياسية المتغيرة والمرتبطة بالمصالح الشخصية والأيديولوجية والطبقية التى ينتمون إليها هى تعبير عن الإسلام الخالد نفسه!
والخطورة الحقيقية فى عدم التمييز بين الثابت والمتغير فى الأحكام الشرعية، وبين قطعىّ الدلالة من النصوص وظنىّ الدلالة منها، وبين المحكم والمتشابه فى القرآن، وأيضاً عدم التمييز بين الأحاديث المتواترة وأحاديث الآحاد، والأحاديث الصحيحة النسبة إلى الرسول الكريم والأحاديث الضعيفة والموضوعة كذباً عليه صلى الله عليه وسلم.
وبطبيعة الحال ينتج عن ذلك الخلط تضخم تشريعى مكبِّل للإبداع والحياة الإنسانية، كما تنتج منظومة من الخرافات والمعتقدات والأحكام غير المنضبطة، ومجموعة من القيم المعكوسة التى تولد عقولاً مغلقة وهشة، يمكن بسهولة قيادتها نحو ممارسة الإرهاب ليس ضد الآخر فحسب بل ضد أبناء الدين الواحد والوطن الواحد.
ولعل هذا هو السبب فى النقد غير العادل الذى يوجهه المؤكدون على الطابع التاريخى للدين، والذين يركزون -من وجهة نظرى- على رؤية الجزئى والسلبى والمؤقت فيما يدخل الفكر الدينى نتيجة الظروف التاريخية ونتيجة الجهل والسطحية، دون أى تمييز بين الدين من جانب والفكر الدينى من جانب آخر، ودون أى تمييز بين الإسلام فى نقائه الأول وبين المسلمين فى ممارساتهم التاريخية التى تصيب وتخطئ.
ويتجاهل الماديون حقيقة أن التاريخ الدينى لا يقدم على الدوام ما هو جزئى ومؤقت ومرحلى، وإنما يقدم كذلك ما هو ذو طابع كلى وإيجابى ودائم. ولكن هذا لا يعنى أنهم لم يكونوا مُحقين فى نقدهم لأتباع الدين عندما حوّلوا «فهمهم» للدين الأصلى إلى حقائق نهائية ومؤسسة وكهنوت يركز على الطقوس والمظاهر أكثر مما يركز على نقاء الضمير والفضيلة واتساق الظاهر والباطن، ويركز على الشكلى والسلطوى والقهرى أكثر مما يركز على الجوهرى والعقلى والإنسانى. ويبدو -من وجهة نظرى- أن هذا قدَر كل دين، عندما ينسى أتباعه فى عصور الانحلال والتراجع الطبيعة الأصلية والمقصد الحقيقى له. ولهذا نجد أن محمداً صلى الله عليه وسلم كان يدرك خطر تحول الدين عن أصله إلى شكليات، ويخشى من «البدع» التى تُفقد الدين جوهره وتتحول فيه الوسائل إلى غايات، والنوافل إلى فروض، والشكليات إلى جوهريات، والفروع إلى أصول، والعادات الاجتماعية إلى واجبات دينية!
وهنا لا بد أن نفهم أن تحذير محمد عليه الصلاة والسلام كان من «البدع» فى مجال العبادات، وليس من «الإبداع الإنسانى» فى مجال الحياة. ولذا فإنه فى الوقت الذى حذر فيه من الأولى، دعا إلى تجديد فهم المسلمين للدين فى جانبه المتعلق بالحياة، بغية تخليص فهم الدين من العنصر التاريخى ذى الطابع المؤقت الجزئى والعرَضى، والتدبر والتنقيب لاكتشاف ما هو دائم وكلى وجوهرى ومع ذلك يتنوع فى معناه ليلائم التطور الحادث فى ظروف الناس والمجتمع والتاريخ؛ ولذلك فإن المفسرين الأوائل عددوا المعانى للآية الواحدة واللفظ الواحد، ليس فقط فى نطاق التفسير العقلى أو التفسير بالدراية، بل أيضاً فى نطاق التفسير بالمأثور عند السلف القائم على تعددية مدهشة لا يفهمها أهل الجمود فى عصرنا.