ليس صحيحاً أن المرء يتغير بمجرد أن يقول «أنا تغيرت».. وإلا لحاسبنا الله عز وجل على القول وليس الفعل..!
قل ما شئت: أنا جدع.. أنا أفضل.. أنا لست عاصياً.! ولكن الواقع أنك لن تصبح «جدعاً» إلا إذا أقلعت عن «الندالة».. ولن يراك الآخرون «الأفضل» دون التوقف عن الكذب والكسل والخداع.. ولن يقبل الله توبتك، سوى فى حالة واحدة: أن تُقلع عن المعاصى وتندم وتطلب المغفرة.. أما إذا ظللت كما أنت، فلا تغيير، ولا تقدم، ولا شىء سوى أنك تخدع الناس، وتضحك على نفسك..!
تمنيت لو أننى لم أقرأ صحيفة «الأهرام» الغراء فى عددها الصادر يوم الجمعة الماضى.. فلم تعد لدىّ طاقة ولا صحة لـ«حرقة الدم»، وأنا الذى عاش أكثر من أربعين عاماً يطالع مانشيتات الصحف فى عهود مختلفة، وهى تدبج مانشيتات الوعود والأحلام الوردية للمواطنين.. بينما لا يُنفَّذ شىء.. ربما كانت «ماسورة» الوعود والأوهام مقبولة فى زمن الخداع والتمثيل المتبادل بين الحكومة والمواطنين.. فقبل ثورتَى 25 يناير و30 يونيو، كان الاثنان يمارسان لعبة التمثيل على بعضهما البعض.. الحكومة تمثل أنها تحقق الإنجازات بأرقام خيالية.. والمواطن يمثل عليها أنه يعمل وينتج.. فيتقاضى منها المرتب الهزيل، ثم يصرّف حاله بـ«الرشوة والفساد»..!
اقرأ معى مانشيت «الأهرام» وصفحتَى 6 و7 بذات العدد، ثم أجب عن السؤال: هل تغير شىء؟!.. المانشيت يقول: «الوزراء لـ«الأهرام»: 250 ألف وحدة سكنية.. ألف عربة قطار.. 3 مراحل مترو أنفاق.. مائة ألف فرصة عمل.. مساعدات لـ500 ألف أسرة.. تطوير العشوائيات».. كل هذا فى عام 2015 الذى بدأ منذ عدة أيام.. وفى الداخل كانت المانشيتات: فى مصر الجديدة.. الصرف الصحى لألف قرية محرومة.. التأمين الصحى يمتد إلى 400 ألف مواطن بالأقصر وأسوان... إلخ... إلخ... إلخ.. وكلها تصريحات للوزراء..!
هكذا.. تمارس الحكومة نفس «اللعبة القديمة».. وهكذا أيضاً تساعدها الصحافة فى ممارسة «اللعبة القديمة».. فما الذى تغير فى الحكومة، وماذا تغير فى الصحافة؟!.. سؤال يبدو صادماً.. ولكن المرء فى مصر اعتاد تلقى «الصدمات»، مثلما يأكل ويشرب ويتنفس.. فإذا كانت الحكومة تعتقد أن الناس نسيت وعود وتصريحات ما قبل عام 2011، فإن الذكرى تنفع المؤمنين.. فقط أدعو السادة الوزراء إلى مراجعة الصحف القومية «الحكومية» قبل الثورة.. ثم حساب أعداد فرص العمل، ومشروعات الصرف الصحى، والتأمين الصحى، والشقق، وعربات القطارات، والمساعدات للفقراء، التى أعلنت عنها الحكومات المتعاقبة.. حتماً سيجد السادة الوزراء أن «الأعداد والوعود» فى التصريحات كانت تكفى -لو نُفذت- 3 شعوب بخلاف الشعب المصرى.. حتى لو نفذنا نصفها لكان «حسنى مبارك» زعيماً خالداً فى قلوب المصريين.. ولخرجت مظاهرات 25 يناير تطالب بتوريث مقعده الرئاسى لابنه «جمال» ولأحفادهما حتى يرث الله الأرض ومن عليها..!
كانت المصيبة -ولا تزال- أن أحداً لا يحاسب وزيراً على إطلاق الوعود البراقة، والتصريحات الوردية.. لذا بات طبيعياً أن يتعامل المواطن مع هذه المانشيتات والتصريحات باعتبارها «كلام جرايد» رغم أن الجريدة لم تكذب.. وتزداد المصيبة فتصبح كارثة حين تستمر آلية التصريحات الحكومية -حتى اليوم- حول الإنجازات بأرقام مبالغ فيها، دون أن يخرج مسئول واحد ليقول لنا: كيف.. ومتى.. ومنين؟!.. وإليكم مثالاً أبلغ من الكلمات: فما نشرته الزميلة «الأهرام» يتضمن تصريحات «صاروخية» من وزير الصحة بأن 400 ألف مواطن بالأقصر وأسوان سوف ينضمون لـ«مظلة التأمين الصحى».. والمفارقة المضحكة المبكية أننا فى مصر ليس لدينا تأمين صحى بالمعنى المتعارف عليه، ليس فى الدول المتقدمة، وإنما فى الدول النامية نفسها.. المثال الآخر أن وعود الحكومة بتنفيذ المشروع القومى للطرق قبل أغسطس المقبل تواجهه صعوبات عنيفة، دفعت المهندس داكر عبدالله، عضو الاتحاد المصرى لمقاولى التشييد والبناء، إلى أن يتقدم بمذكرة للمهندس إبراهيم محلب، رئيس الوزراء، أكد فيها أن المشروع لن ينتهى فى الموعد المحدد لأسباب فنية وتمويلية كبيرة..!
والسؤال الآن: هل تغيرنا بعد ثورتين عظيمتين؟!.. الإجابة التى فى بطنى: يا سادة.. ثمة فرق كبير بين زراعة الأمل وبيع الأوهام..!