إن من أكبر مشاكل الإدراك العقلى التى يُوقع فيها الحاسد نفسه، أنه بتنمية تيار الحسد فى عقله، يؤذى نفسه قبل أن يؤذى المحسود! مما يدل على الخلل الذهنى أو الإدراكى عند هذا الحاسد.
ولذا ربما يكون الحسد أكثر خصائص الطبيعة البشرية جلباً للشعور بالتعاسة؛ فالحسود لا يتمنى أن يصب البلاء على من يحسده فحسب، ولا يتردد فى ذلك إن سنحت له الفرصة بغير عقاب، بل إنه يشقى شخصياً بحسده للآخرين، فبدلاً من الشعور باللذة أو السرور بما لديه، نراه يستمد الألم مما يحظى به الآخرون! إن الحسد هو تلك الطبيعة البشرية الخسيسة التى لو تعمقنا فيها لوجدنا أنها وراء كثير من دوافع إيذاء الآخرين سواء بالفعل أو بالقول، وهو ليس صفة عارضة أو أمراً هيناً؛ ولذلك فإننا قد استطردنا فيه بعض الشىء أملاً فى الكشف عن جانب مظلم فى الطبيعة البشرية كثيراً ما يسبب التعاسة للحاسد نفسه، وإذا ما نجح الإنسان فى التغلب على تلك الطبيعة، فإنه سيكون قد أسهم فى إنضاب وتخفيف منبع كبير من المنابع التى تدفع للصراع المميت بين طوائف المجتمع الواحد. هل تعلم عزيزى القارئ ما الجريمة التى تقع عقوبتها قبل أن تتحول من عالم النوايا إلى عالم الواقع، والتى تسبقها العقوبة أو تلازمها؟ أى أن العقوبة تحدث فى الوقت نفسه الذى يتم فيه ارتكاب الجريمة على المستوى الشعورى وقبل حدوث جرم خارجى. إذا نظرت فى كل العقوبات تجدها تحدث بعد وقوع الخطأ فى الواقع الخارجى، إلا الحسد فإن عقوبته تحدث فى أثناء الشعور به، وقبل أن يتحول إلى فعل مؤذٍ فى الواقع الخارجى؛ فنفس الحاسد تحترق غلاً ونقمة ومعاناة وحقداً. ومن أسف فإن الحاسد لو استطاع أن يحرم الآخرين مزاياهم دون أن يناله عقاب لفعل! ولأنه لا يستطيع ذلك، فإنه يلجأ إلى الوسائل الخسيسة لإلحاق الأذى بالمحسود.
وما من شك فى أن افتعال «العقبات» و«الوشايات» و«الشائعات» و«التآمر» من تلك الوسائل الخسيسة الجبانة التى يلجأ إليها الحاسد، وتكون «التفسيرات المصطنعة» عنده بمثابة إجابات يتمناها عن أسئلة دائماً ما يطرحها على نفسه: لماذا يحظى شخص ما بالتقدير والاحترام؟ لماذا وصل «س» من الناس إلى النجاح؟ لماذا حقق «ص» كل هذه الثروة؟ لماذا حصل «ع» على منصب مرموق؟ هذه كلها أسئلة يوجهها الحسود إلى نفسه ولا يجد عليها إجابات شافية لحسده، ولذا فإنه يصنع إجابات -أحياناً بوعى وأحياناً بدون وعى- لكى يبرر فشله هو الذى لا يريد أن يعترف به وفى الوقت نفسه يبرر نجاح الآخرين أمام نفسه، وتكون هذه الإجابات هى المضمون الفعلى للشائعات، فهذا منافق متملق وصولى! وذاك حرامى مرتشٍ! وتلك تفرط فى عرضها وشرفها! وهلم جرا. والحسد -من أسف- قد يقع بين المؤمنين، وهذا تناقض واضح بين الإيمان وفعل الحسد. ويجب أن يعدل المؤمن من أفكاره؛ لأن من التناقض أن تكون مؤمناً بالله وقدره وتدبيره ثم تحسد الآخرين على ما أعطاهم الله من فضله! فأنت بهذا متمرد على ما تؤمن به من قسمة الله بين الناس «أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ» (الزخرف: 32). ومن أفضل الإجابات التى قدمها الفلاسفة، تلك الإجابة التى طرحها الفيلسوف برتراند راسل فى كتابه «الوصول إلى السعادة»؛ حيث يقترح بالنسبة للمؤمن الصالح علاج «اللاذاتية»، أى يحاول المؤمن أن يجاهد نفسه لكى يكون غير أنانى وغير متمركز حول ذاته. وإذا ما تركنا الصالحين جانباً وأخرجناهم من حسابنا، فإن علاج الحسد لدى الرجال والنساء هو تنمية «الشعور الداخلى بالسعادة»، والصعوبة هنا مصدرها أن الحسد نفسه عقبة رهيبة تعترض الوصول إلى السعادة، والحسد يكبر وينمو فى فترة الطفولة؛ فالطفل الذى يرى أخاً أو أختاً مفضلاً عليه أمامه يكتسب عادة الحسد، وعندما يكبر ويخرج إلى العالم يفتش عن المظالم التى يمكن أن يكون ضحيتها، ويدركها على الفور إذا ما وقعت، بل ويتخيلها إذا لم تقع! مثل هذا الإنسان شقى لا محالة، وهو أيضاً مصدر إزعاج للآخرين. بيد أن الحسود قد يقول: «وما جدوى أن تقول لى إن علاج الحسد هو السعادة؟ فأنا لا أستطيع أن أجد السعادة ما دمت أشعر بالحسد، وأنت تقول لى إننى لا يمكن أن أتوقف عن الحسد إلا إذا وجدت السعادة». يجيب «راسل» عن هذا بأن الحياة الواقعية ليست مطلقاً بمثل هذه الدقة المنطقية، فمجرد إدراك المرء أسباب مشاعر حسده يعد خطوة كبيرة صوب شفائها.
وعلى الإنسان الحكيم -كى يكتشف سبيل سعادته ونجاحه- أن يدرك أن الدنيا واسعة، وفضل الله أوسع، وأن ما يلحق الآخرين من نعمة لن يقلل فرصة ما يمكن أن يلحقه من نِعم، فعليه أن ينشغل بتنمية نفسه بدلاً من أن ينشغل بهدم الآخرين، وأن يكبّر عقله ويوسع قلبه، ويتجاوز نواقص النفس البشرية؛ لكى يحظى بالحرية، وينعم بالتحرر من كل المنغصات، ويسهم فى إرساء دعائم مجتمع أفضل.