تظل بعض الأشياء المعروفة صالحة لإثارة الدهشة، مثل التقرير السنوى الذى يصدره بنك الائتمان والاستثمار السويسرى عن «الثروة فى العالم».. وفيه هذا العام أن 1٪ فقط من أغنى أغنياء العالم يملكون 46٪ من إجمالى الأصول العالمية، وأن الـ10٪ الأغنى يملكون 86٪ من الثروة العالمية.
أما الأكثر إدهاشاً فى تقرير هذا العام فهو ما يخصنا هنا فى مصر، حيث شهدت السنوات الماضية منذ ثورة 25 يناير 2011 أضخم عملية كذب منظم من شريحة رجال المال والأعمال، غطت الصحف وطفحت من الفضائيات، وكلها تدور حول الانهيار الاقتصادى الذى شهدته مصر، والركود الذى ضرب السلع التى تنتجها مصانع رجال الأعمال تحديداً، والخسائر الفادحة التى تعرّض لها هؤلاء القراصنة، وقد ترتب على هذا الكذب الغادر، منظومة أخرى من مطالب رجال الأعمال من الدولة، كان من أهمها رفض تطبيق الحد الأدنى للأجور للعاملين فى إقطاعياتهم، والرفض القاطع لعلاوة الـ10٪ السنوية للعمال، ولمشاركة العمال فى الأرباح، ورفض تطبيق ما ينص عليه الدستور من إصلاح منظومة الضرائب على الأرباح التجارية لكى تكون تصاعدية، والاكتفاء بضريبة الـ5٪ التى اتضح للكافة أن «القراصنة الكبار» هم الذين اقترحوها على الحكومة، وقد رفضها الدكتور حازم الببلاوى لأنه رأى فيها إجهاضاً مبكراً لمشروع العدالة الضريبية، وبعد رحيله عن مجلس الوزراء سارعوا إلى تقديم مشروعهم للمهندس إبراهيم محلب الذى ابتلع الطعم ولبّى مطالبهم.
وقد جاء تقرير «الثروة العالمى» الأخير ليفضح هؤلاء القراصنة مرة أخرى، فقد رصد التقرير أن 1٪ فقط من أغنياء مصر يستحوذون الآن على 48٫5٪ من الثروات والأصول الإنتاجية، وأن ثروات هذه النسبة الضئيلة جداً زادت بسرعة غير مسبوقة خلال السنوات الثلاث الماضية، فقد كانت نسبة ثروات هؤلاء القراصنة عام 2000 لا تزيد عن 32٪ من مجموع الثروات الوطنية، ثم تخطت حاجز الـ35٪ عام 2007، وظلت تتصاعد منذ هذا العام حتى وصلت إلى 48٫5٪ فى 2014!
وعندما يتوسع التقرير ليرصد حالات الاستحواذ على الثروة فى مصر لدى شريحة تمثل 10٪ من الشعب المصرى، فإنه يقرر أن هذه الشريحة كانت تملك 61٪ من الثروة عام 2000، ارتفعت إلى 65٫3٪ عام 2007، ثم وصلت عام 2014 إلى 73٫3٪!
والمعنى الواضح جداً فى هذه الأرقام الصادمة أن الرأسمالية المصرية كذبت على هذا الشعب وعلى حكامه مرتين؛ مرة بعد الأزمة المالية العالمية التى ضربت المركز الرأسمالى العالمى عام 2008، ولعل كثيرين منا يذكرون حفلات الندب والنواح التى عمت كل وسائل الإعلام حول الخسائر الرهيبة التى تعرّض لها رجال الأعمال بسبب هذه الأزمة، وهى كذبة منحطة تكررت بالطريقة ذاتها بعد ثورة 25 يناير 2011 التى لم تترك مواطناً مصرياً عاملاً أو موظفاً أو منتجاً أو تاجراً صغيراً إلا وحطمته، ولم تترك هيئة حكومية ولا شركة من شركات قطاع الأعمال العام إلا وكبّدتها خسائر باهظة.
نعم، كانت الثورة، وما بعدها من سنوات، وبالاً على جموع الشعب، لكنها كانت فرصة عظيمة أخرى لشريحة القراصنة، التى انتهزت الفرصة ورفعت أسعار منتجاتها وخدماتها وحققت أرباحاً فاحشة من دماء وعرق الكادحين فى هذا البلد، بينما كانت الجموع البشرية الحاشدة تتكدس فى الميادين وتجوب الشوارع وهتافات «عيش - حرية - عدالة - كرامة إنسانية» تشق حناجرها.
نعم، كانت مطالبنا فى العيش الكريم والعادل تشق حناجرنا، بينما كان القراصنة يشقون جيوبنا للاستيلاء على آخر ما فيها من نقود، وقد انتبه كثيرون إلى هذه المفارقة العجيبة بعد الثورة، خصوصاً بعد أن أصدر اتحاد المجالس السلعية التصديرية تقريره الختامى فى يناير 2012، فإذا بنا نكتشف أن عام 2011، الذى شهد انهياراً اقتصادياً للدولة وللمواطنين معاً، كان هو نفسه العام الذى زادت فيه صادرات القطاع الخاص إلى الخارج من 110 مليارات جنيه عام 2010 إلى 130٫7 مليار جنيه عام 2011!
هل من حل جذرى لهذه المفارقة؟ وهل هناك أوجع من أن يستنجد رئيس الجمهورية بهؤلاء القراصنة فلا يأخذ منهم غير الشكاوى الملفقة من سوء أحوالهم ومن تراجع أعمالهم وأرباحهم، ثم عندما يستنجد بفقراء هذه الأمة يحصل منهم على 60 مليار جنيه لتمويل مشروع قناة السويس فى أقل من 10 أيام؟
يا سيادة الرئيس.. الضرائب التصاعدية هى الحل.. خذ منهم -بالدستور وبالقانون- هذه الثروات المنهوبة.. فلن يضيرنا أبداً أن نصحو ذات يوم فلا نجد أثراً لهذه الشريحة الطفيلية التى تسيطر على نصف ثروات البلد.. ولن يضيرنا أبداً أن يتضامن معهم شركاؤهم الأجانب ويمتنعوا عن المجىء باستثماراتهم إلى مصر.. فالاستثمار الأجنبى لم يدخل بلداً إلا وأفقره، وكل نماذج النهضة العالمية المرموقة قامت بأموال وطنية ولم تعتمد إطلاقاً على الاستثمار الأجنبى.