يمكن أن أرجع جانباً من المعارك الزائفة التى يخوضها البعض ضد الآخرين فى مجتمعنا، سواء كانوا أفراداً أم جماعات، إلى حالة الحسد العام السياسى والاجتماعى التى تُعدّ عرضاً من أعراض مجتمع تعلوه ثقافات طفيلية هشة ومريضة.
ولكن هل من سبيل لعلاج الحسد؟
توجد إجابات عديدة على هذا السؤال، ليس من بينها الرُّقية ولا البخور ولا التمائم ولا الأحجبة ولا ما شابه! والإجابة التى سأحاول تقديمها ليست لعلاج المحسود كما جرت العادة، بل لعلاج الحاسد. إنه الأولى بالعلاج؛ وهو الأخطر على المجتمع والناس، بل وعلى نفسه. وهو غالباً يعذب نفسه بهذا الحسد الذى يعانيه، وتتحول هذه المعاناة إلى شرور وأفعال وكلمات مؤذية.
ويمكن أن أتحدث عن عدة إجابات على هذا السؤال عن كيفية علاج الحاسد، منها إجابة فلسفية معرفية تتعلق بإعادة تكوين الأفكار عن العالم والإنسان، ومنها أيضاً إجابة الدين والمنظومة الاعتقادية.
نعم، إن الفلسفة لها رأى فى هذا الموضوع، فليست الفلسفة كما يظن البعض تقف فقط عند النظريات الكبرى التى تفسر الوجود والحياة والإنسان والألوهية والمبدأ والمصير وطبيعة المعرفة والقيم، بل الفلسفة -أو بعض الفلاسفة إذا أردنا الدقة- مهمومون أيضاً بمشاكل الإنسان التافهة التى تصنعها عقول ونفوس صغيرة، ومع أنها مشاكل تافهة، فإن اهتمام بعض الفلاسفة بها ليس تافهاً؛ لأنه اشتغال بما يساعد على وصول الإنسان إلى السعادة بوصفها غاية إنسانية قصوى. ومن ينكر هذا مغالط ومتعالٍ كبير!
كيف تحل الفلسفة، إذن، مأزق الحسد الإنسانى؟
إن إجابة الفلسفة ليست إجابة واحدة مطروحة عند كل الفلاسفة؛ لأن الفلسفة ما هى إلا إجابات متنوعة بقدر تنوع الفلاسفة وزوايا النظر التى ينظر بها كل منا إلى العالم. والإجابات الفلسفية ليست معزولة عن علم النفس أو الاجتماع أو الدين أو العلوم الأخرى؛ بل تتضمن شيئاً منها أو كلها.
بتحليل بسيط نجد أن الحسد السلبى شكل من أشكال الرذيلة، وهذه الرذيلة جانب منها خلقى والجانب الآخر عقلى. أما الجانب الخلقى فقد أدانته كل الأديان والمنظومات الفلسفية الأخلاقية، والجميع يعرف ذلك. ولهذا أريد أن أتوقف عند الجانب الآخر المتعلق بـعمل العقل فى طريقة إدراكه لما حوله وطريقة تعامله مع العالم المحيط.
إن الحسد يحدث عند إجراء المقارنات، أى عند عدم رؤية الشخص للأشياء فى ذاتها ومن حيث هى، بل من حيث علاقتها بغيرها، وهو يرى هذه العلاقات من زاوية ضيقة! مثلاً لنفترض أن شخصاً ما لديه «مال» يكفيه للوفاء باحتياجاته، فينبغى أن يكون راضياً قانعاً به إذا نظر إليه وحده فى حد ذاته، لكن عندما يعلم هذا الشخص أن آخر لديه مال أكثر مع أنه ليس أفضل منه من وجهة نظره الشخصية أو حتى من حيث الحقائق الموضوعية، فإنه سيشعر -إذا ما كان حسوداً- بتبخر رضاه وقناعته، وتأكله نار الحسد، خاصة أنه لا يرى أو لا يُدخل مجموع الأشياء فى حساباته؛ فلم يُدخل مُعامل الصحة ولا رأس المال الاجتماعى ولا التوافق الأسرى ولا الأصدقاء المخلصين ولا ضغوط العمل ولا حجم الإنفاق ولا القدرة على الاستمتاع بالحياة أو غيرها من متغيرات كثيرة. إنه قد ركز فقط على نقطة واحدة وأحدث المقارنة معها! ثم أعقب المقارنة بشعور ناقم حاقد يتمنى فيه وبه زوال الخير الذى ينعم به الآخر.
إذن التفكير بأسلوب المقارنات هو المسئول عن جزء كبير من أسباب الحسد؛ والذى يعتاد مثل هذه العادة إنما يعتاد عادة مميتة، كما يقول الفيلسوف برتراند رسل فى كتابه «الوصول إلى السعادة»، ولا بد أن يقضى عليها، فإذا حدث شىء سار وجب الاستمتاع به بأكمله وفى حد ذاته، بدون التوقف كى نفكر فى أنه ليس مضاهياً فى مسرته لشىء آخر لم نحصل عليه. والحسود دائماً يعقد المقارنات ويقول: «نعم.. اليوم مشرق مشمس، والوقت ربيع، والطيور تصدح، والأزهار متفتحة وناضرة، ولكنى أعلم أن الربيع فى صقلية أبدع ألف مرة منه هنا..»! ويشعر وهو يفكر على هذا النحو بأن الشمس غدت معتمة، وأن تغريد الطيور مجرد زقزقة ولغو فارغ، وأن ورد حديقته لا يستحق التفاتة لأن ورد حديقة أخرى أروع! وهو يعامل سائر أفراح الحياة على هذا النحو؛ فهو خليق أن يقول لنفسه: «أجل إن حبيبة قلبى جميلة، وأنا أحبها وهى تحبنى، ولكن لا بد أن ملكة سبأ كانت أجمل منها كثيراً! آه لو كانت أُتيحت لى الفرص التى أُتيحت لسليمان!».
إن التفكير بأسلوب المقارنات على النحو السابق، لهو أمر سخيف ولا معنى له إلا الدلالة على مرض ينبغى الشفاء منه، ويستوى فى ذلك أن يكون سبب الحسد والشعور بالسخط ملكة سبأ أو أحوال الجيران وزملاء العمل! فكل ذلك لغو عقيم، والإنسان الذكى لا يقل فرحه بما لديه لأن شخصاً آخر عنده ما يفوقه!
وفى رأيى الشخصى كان من الممكن أن يُجرى هذا الحاسد المقارنة ويخطئ فيها ما يشاء، لكن يجعل شعوره «الغبطة» لا «الحسد»، والغبطة أن تتمنى لنفسك مثل حظ الآخر، دون تمنى زوال هذا الحظ عنه الذى أنعم الله به عليه. فالكون يتسع للجميع، والسماء لا يحلق بها نجم واحد!
وللحديث بقية..