قبل ٩٢ عاماً.. كان جدى يتعلم كيف يمسك «الفأس» ليزرع الأرض.. وكان جدك حتماً يحرك أصابعه الصغيرة على «ماكينة» الحياة.. بينما كان الأستاذ محمد حسنين هيكل يسجل لحظة مولده.. ثم يحبو فى البيت بحثاً عن شهادة ميلاده.. وإن لم يجدها، التقط ورقة بيضاء، ثم طبقها ووضعها فى جيبه.. ليقول لنا فيما بعد إنه ولد فى لحظة الحقيقة، أو عام الأزمة، أو مرحلة الخيارات الصعبة.. وإن لم نصدقه.. ظهر على الشاشة، وأمسك بالورقة البيضاء التى صبغها الزمن باللون الأصفر الداكن، وقال بثقة مطلقة -ومن بعيد ودون أن يفتحها- «هذا هو الدليل على صدق كلامى»!!.. ومن الذى يجرؤ على مراجعة «الأستاذ»، أو حتى سؤاله بحياء أو استحياء: «ماذا فى الورقة المطوية؟!.. وما علاقة ذلك بما تقول؟!».
مبدئياً.. أقر وأعترف بأننى أحد تلاميذ «الأستاذ» فى الصحافة، وليس فى السياسة.. ثمة مسافة كبيرة بيننا فى نظرة كل منا للصحفى.. هو يؤمن بأن وجوده فى سرداب الحاكم ودهاليز قصره وتلافيف عقله ضرورة حتمية، وإن لم يضعه الحاكم إلى يمينه ويساره ومن أمامه وخلفه، انطوى الأمر على خصومة.. فقطيعة.. فعداء. وأنا أرى أن ثمة مسافة ضرورية ينبغى أن تبقى بين الصحفى والحاكم.. مسافة تجنب الطرفين «التصاق الفخدين»، وتحافظ فى الوقت ذاته على تواصل ونقاش إيجابى لمصلحة البلد، دون تماهى الصحفى مع السلطة، ودون تسخير القلم لتسويق الرئيس، أو عداء وقطيعة!
وأقر وأعترف أننى من المقربين لـ«هيكل» منذ سنوات، وجمعتنا حوارات كثيرة.. بل وكنت أنا صاحب فكرة ومبادرة ظهوره فى حلقات حوارية على شاشة محطة «cbc»، بدلاً من ظهوره على شاشة «الجزيرة» القطرية، وأنا مَن تفاوض معه منذ عامين تقريباً، وأقنع الرجل بذلك فى البداية.. ولم أطرح أن أحاوره، بل رشحت زميلتى «لميس الحديدى»، حتى لا يفسر أحد سطورى المقبلة بنظرية الشخصنة أو الغيرة، لأن ثمة شهوداً أحياء على ذلك.
ورغم حبى لـ«الأستاذ».. كثيراً ما توقفت أمام معلومات يطرحها بثقة مبالغ فيها.. ثم يبنى عليها تحليلات وأحكاماً قاطعة.. إلا أننى لم أتعرض لذلك من قبل؛ احتراماً لرجل كبير.. غير أننى اليوم أقف فى «مربع» مختلف.. إذ ذكر «هيكل» فى حواره أمس الأول مع «لميس الحديدى» على شاشة «cbc» معلومات كنت شاهداً على عكسها.. ولأنه اختار لحلقاته الجديدة عنوان «2015 .. عام الحقيقة».. بات لزاماً علىَّ أن أنتصر للحقيقة.. وبات لزاماً عليه أن يشجع تلميذه على ذلك..!
قال الأستاذ هيكل فى الحلقة «لم أطلب الرئيس مبارك فى حياتى ولا مرة، سوى المرة التى رآنى فيها، وكلانا اكتفى من الآخر.. وهو لم يسعَ ولا أنا سعيت، وأنا لم أرَ سوزان مبارك ولا مرة، وهناك ناس تتطرق لهذا، وهذا يضايقنى، ويقولون إن أولادى شركاء أولاد مبارك، رغم أنهم لم يروهم ولم يعرفوهم أصلاً، كل الناس كانوا يريدون رؤية أولاد مبارك، وأولادى لم يقتربوا حتى -من باب الحرج- أن يفعلوا هذا»..!
نصف كلام «هيكل» ربما يكون صحيحاً.. فالرجل كان على خصومة -إلى حد ما- مع «مبارك»، ليس لأنه ترفّع عن ذلك.. وإنما لأن الاثنين فهما بعضهما البعض مبكراً.. فلا «مبارك» عبدالناصر، ولا حتى السادات، كى يمنح «هيكل» موقعه المفضل.. ولا «هيكل» كان يقبل بأدنى من ذلك.. غير أن الحقيقة «الْتَوَت وانكسرت» بين أصابع «الأستاذ» حين نفى بجرأة غير مسبوقة علاقة أولاده بـ«جمال مبارك» ونظام والده.. لم أصدق هذا الكلام، لأننى كنت شاهداً على وقائع لا تحتمل الالتباس.. فنجل «هيكل» (حسن) كان شديد القرب من «جمال مبارك»، وشاهدته ذات مرة فى «سرادق عزاء» يصافحه بحرارة الأصدقاء.. وفى «سرادق» آخر، كان اللقاء عادياً بين «حسن» و«علاء مبارك».
وربما يعرف «الأستاذ» أن علاقة نجله «حسن» بـ«جمال» فى «البيزنس» لم تكن مباشرة، لاعتبارات يدركها كل رجال الأعمال والخبراء.. إذ بدأت هذه العلاقة عبر شركة «أوف شور» اسمها «بولين»، أسسها «جمال» فى قبرص.. وبدأت الشراكة حين استحوذت شركة «هيرميس القابضة» على جزء من هذه الشركة فى صفقة «غير معلنة»، وَضَعْ تحت «غير معلنة» مليون خط أحمر، ولم ينكشف الأمر إلا بعد «ثورة يناير».. وتؤكد التحقيقات التى أجرتها النيابة أن «حسن هيكل» أدار بموجب هذه الشراكة باعتباره الرئيس التنفيذى لـ«هيرميس» استثمارات شركة «جمال» فى مصر.. وللموضوعية فإن «حسن» نفى ذلك فى التحقيقات، ولكن القضية لا تزال مفتوحة..!
أما «أحمد هيكل» نجل «الأستاذ».. فقد كان داعماً ومستفيداً من «نظام مبارك».. ولأننى لا أحب رفع «الأوراق المطوية» على الهواء.. أطلب من «أستاذى» العودة إلى الأخبار المنشورة فى الصحف المصرية بتاريخ 12 أكتوبر 2008.. ففى احتفال جمعية جمال مبارك «جيل المستقبل».. كان «أحمد هيكل» أحد أبرز الحضور والداعمين.. وقال الخبر نصاً: «شهد الحفل تبرع عدد من رجال الأعمال الحاضرين للجمعية وتراوحت المبالغ بين 100 ألف وخمسة ملايين جنيه، وقاد التبرعات الكبيرة كل من معتز الألفى نائب رئيس الجمعية عن شركة «الخرافى»، وأحمد هيكل عن شركة «القلعة».. و... و.. فكيف يقول «الأستاذ»: أولادى لم يروا أولاد مبارك ولم يعرفوهم أصلاً.. كل الناس كانوا يريدون رؤية أولاد مبارك، وأولادى لم يقتربوا، من باب الحرج»..!
الوقائع كثيرة.. والملفات أكثر.. ولكننى شعرت بـ«الحرج» وأنا أسمع هذا الكلام، لأننى كنت أتمنى أن أتعلم من «هيكل» الصدق -ضمن أمور كثيرة تعلمتها منه- لا سيما أن أحداً لم يطعن فى ذمته المالية، ولم يسأله عن علاقة أبنائه بأبناء «مبارك»، إذ ألقى عباراته هذه فى سياق مفتعل، لأن «لميس» لم تطرح عليه هذا السؤال أصلاً..!
بقى أن أقول للأستاذ هيكل بـ«صدق المحب» إن التبرؤ من نظام «مبارك» لا يقتضى «اغتيال الحقيقة».. وإن مصر كلها كانت على علاقة بـ«نظام مبارك»، وليس عيباً أن يكون «أولادك» مثل مصر كلها، وإلا ما حققوا أرباحاً وثروات ضخمة فى «عهد مبارك».
.. وأرجو أن يلتمس «الأستاذ» لى العذر، فهو يريد فى حلقاته أن يكون «2015 عام الحقيقة».. وأنا لا أريد لما قبل 2015 أن تكون «سنوات التبرؤ من الحقيقة».
وفى النهاية ليس التلميذ كالأستاذ.. وعفواً..!