نادرة هى الحالات التى يجتمع فيها الإحساس بالفرح والحزن فى آن واحد. وصباح الثلاثاء الماضى انتابتنى هذه الحالة أثناء مشاركتى فى حفل تأبين عالم الاجتماع المصرى الراحل الدكتور سمير نعيم، وهو حفل نظمه أساتذة قسم الاجتماع بآداب عين شمس، لاستعادة القيم التى أرساها هذا العالم المرموق فى كل مكان عمل فيه، ولدى كل إنسان اقترب منه أو تعرف عليه بالصدفة.. وقد كنت واحداً من هؤلاء الذين وضعتهم الظروف الطيبة فى طريق هذا الرجل، فإذا بى أتعلم من الحديث معه، ومن مجرد رؤيته وهو يتحدث، أكثر مما تعلمته من قراءة عشرات الكتب والأبحاث فى كل مجالات علم الاجتماع.
كان أول ما لفت نظرى فى الدكتور سمير نعيم هو «الحرارة» التى تميز صوته وهو يتحدث فى أى موضوع، والقدرة العلمية على تبسيط أعقد قضايا العلوم الإنسانية، والابتعاد الواضح عن مناطق «الحياد» الرمادية فى حكمه على أى قضية أو ظاهرة. كان يكره الحياد والمحايدين أكثر من كراهيته للظلم وللظالمين، لأنه كان يرى أن «المحايد» أكثر لؤماً وخسة من الظالم الواضح، لأنه بالإضافة إلى نصره للباطل وخذلانه للحق، يضع نفسه فى منطقة لا يطاله فيها الحساب، ويظل طيلة حياته يجنى ثمار حياده من طرفى الصراع: الحق والباطل معاً!.
قبل أن أعرفه كنت أتعامل مع «العقل العلمى البارد» بكثير من التسامح، كان البرود يؤلمنى مثلما يؤلم معظم الناس، ولكننى كنت أتصور أنه صفة لازمة للعلماء. وبعد أحاديث مطولة مع الدكتور سمير نعيم اتضح لى أن المنطق العلمى أو التفكير المتأنى فى أى قضية لا يتعارض إطلاقاً مع حرارة القلب، وأن البرود الشديد الذى يميز بعض العلماء فى كل المجالات ليس أكثر من حيلة بارعة تبرر لهم الابتعاد عن المشاركة الإيجابية فى قضايا الشعوب التى يتعلمون على حسابها وتضمن لهم عدم المجازفة بامتيازاتهم، والحفاظ على أرزاقهم ومكتسباتهم بعيداً عن «بحر» الانتماء المتلاطم الأمواج.
كان سمير نعيم -رحمه الله- واضحاً كل الوضوح فى انتماءاته، فقد اختار -وهو ابن أسرة ميسورة- أن يقف فى صفوف الفقراء والكادحين والمعدمين ضد السلطة وضد الطبقات المترفة معاً، واختار أن يقف ببسالة مع مجرم جنائى معدم ضد كل القوانين التى صاغتها الطبقة المسيطرة، وأن يدين هذه القوانين وهذه الطبقة، بوصفهما المنبع الأساسى لتوليد الفقر وانعدام العدالة وإشاعة الجريمة فى المجتمع.
وذات مرة كنت أفكر فى ظاهرة اجتماعية وسألت فيها كثيرين ممن توسمت فيهم المعرفة.. هى ظاهرة النكد العام فى مصر.. أو بالأصح: ظاهرة عدم قدرة المصريين على الفرح لفترة طويلة، حتى إن تراثنا الشعبى يرغمنا على الخوف من الضحك.. وكلما غمرتنا موجة ضحك انتهت بالجملة الشهيرة: اللهم اجعله خيراً. وعندما سألت الدكتور سمير نعيم عن هذه الظاهرة جاءت إجابته مذهلة، عندما أعاد عدم القدرة على الاستمتاع بالحياة إلى انعدام البنية الأساسية للفرح فى حياة المصريين.. فقد تفننت الطبقة المسيطرة فى سرقة شواطئ البحار وكورنيش النيل من أسوان إلى القاهرة، وتفننت فى الاستيلاء الجشع على الحدائق والمساحات الخضراء، ثم تمكنت من تحويل «أوقات الفراغ» إلى بيزنس ضخم، حتى أصبح فى حكم المستحيل أن يتمكن مواطن مصرى من قضاء وقت فراغه فى أى مكان مبهج إلا إذا كان من المقتدرين على دفع مبالغ مالية تفوق قدرات الغالبية العظمى من المواطنين.
خلال ثورة 25 يناير 2011 رأيت الدكتور سمير نعيم مرات عديدة بين غمار الناس فى الميادين، وخلال ثورة 30 يونيو 2013 هاتفنى مرات من بين الحشود الغفيرة، وجاءنى صوته مفعماً بفرح طاغ لأن مصر تخلصت من أحقر كيان إرهابى عرفته طوال تاريخها، وبعد شهور من الثورة الأخيرة خالطته الأحزان على الفرص العظيمة التى لاحت لنهضة هذا البلد، ثم تكالب الأوغاد مرة أخرى على سرقتها، ولكنه ظل حتى الرمق الأخير رافضاً لليأس وكارهاً للاستسلام، وكلما حدثته عن الآمال التى تتبخر والأحلام التى تختنق، حدثنى عن «روعة أن تمنح الأمل للناس فى عز يأسك.. وعن نبل مقاومة عوامل التحلل بكل شراسة بدلاً من أن تمنح نفسك فريسة سهلة للتحلل حتى تتحول إلى جثة عفنة».
فى قاعة الاحتفال بهذا العالم والإنسان الرائع بآداب عين شمس.. خالطنى الحزن المفجع على فقدانه.. وخالطنى أيضاً الفرح الحقيقى لأنى رأيت كل القيم التى غرسها فى حنايا تلاميذه وقد أثمرت عرفاناً نبيلاً.. وعهداً على مواصلة طريق الانتماء للبشر الكادحين ضد لصوص العرق والفرح.