تكررت فى السنوات القليلة الماضية حوادث قتل استقطبت اهتمام الرأى العام. سببان أصيلان وراء هذا الاستقطاب؛ الأول أسلوب القتل الجرىء غير المعتاد من حيث السلاح وطريقة التنفيذ فى وسط الشارع على مسمع ومرأى من كل الذين تصادف وجودهم فى لحظة القتل، والثانى الانتشار الواسع عن طريق وسائل التواصل الاجتماعى، حيث تُنشر الصور ومقاطع الفيديو مهما كانت بشاعتها. رأينا مثل هذه الحوادث فيما يُعرف بسفاح الإسماعيلية قبل أقل من عام والذى حُكم عليه بالإعدام، وفى الحادثة الأخيرة قبل يومين أمام جامعة المنصورة، حيث ذبح شاب طالبة جامعية بسبب رفض أسرتها زواجه منها. وفى الحالتين يظهر قاسم مشترك بين القاتليْن يتمثل فى المخدرات التى تُذهب العقل، ولكنها لا تنفى المسئولية العمدية بارتكاب الجريمة الشنيعة، وهى العمدية التى تمثلت فى حيازة القاتلين لآلة حادة، كالساطور فى جريمة الإسماعيلية، والسكين فى حادثة فتاة المنصورة.
ويمتد الأمر إلى مُشترك ثالث، يتعلق بسلوك الأفراد الذين لم يهرعوا إلى القاتل لمنعه من ارتكاب جريمته، بل أصابتهم الدهشة، التى لم تمنعهم من التركيز فى تصوير الحادثة بالهواتف النقالة، والإسراع بنشرها على حساباتهم الشخصية فى التواصل الاجتماعى. بعض التفسيرات تربط هكذا سلوك بأنه افتقار للشهامة وفقدان للمروءة، حيث اللا مبالاة والاهتمام بتحقيق أكبر عدد من الإعجاب لما يُنشر من صور رغم بشاعتها. وتفسيرات أخرى رأت الأمر معكوساً، باعتبار أن هؤلاء الذين اكتفوا بالمشاهدة والتصوير لا يريدون المغامرة بمحاولة منع القاتل ربما خوفاً من التعرض للإصابة، أو لأنهم لا يرغبون فى التورط فى الحادثة كشهود لدى الأجهزة الأمنية والقضائية، ويميلون إلى عدم تحمل المسئولية. وكلا التفسيرين، وبالرغم من تناقضهما الظاهرى، يؤكد حقيقة تغير سمات الشخصية المصرية، وميلها إلى الابتعاد عن المشاكل من وجهة نظرها، والاكتفاء بالمشاهدة، بل والسعى للاستفادة من هذه المشاهدة.
مثل هذه الحوادث العنيفة تحمل الكثير من المضامين والدلالات ذات الصلة بحالة المجتمع ككل. فمن جانب هناك عنصر المخدرات الذى يصل إلى أيادى عدد كبير من الشباب رغم كل الجهود الكبيرة التى لا تتوقف من قبَل الأجهزة الأمنية للسيطرة على هذه الآفة الخطيرة. ومعروف أنه مهما تم إفشال عمليات إدخال المخدرات بأنواعها إلى داخل البلاد، فهناك نسبة تتسرب بالفعل وتذهب إلى شريحة كبيرة من المدمنين، تؤدى بهم إلى الكثير من الأمراض النفسية والعصبية والسلوكيات المضطربة والهلاوس، بحيث يكونون مؤهلين عند مستوى معين من الإدمان إلى ارتكاب جرائم عنف وقتل دون أى رادع داخلى.
الدلالة الثانية أن اللجوء إلى القتل على المكشوف، دون الخوف من العقاب، يعكس لدى القتلة عدم الاكتراث بالقانون والأجهزة الأمنية والقضاء. فضلاً عن الشعور بأن ما يفعله هو شىء عظيم يستحق أن يتباهى به فاعله أمام الناس. ولا شك أن غياب الإدراك، بسبب المخدرات أو أى شىء آخر، بأن القانون يجرم مثل هذه التصرفات وأن الفاعل سوف يُعاقب أشد العقاب بما فى ذلك الموت، يؤشر إلى اختلال كبير فى القيم السائدة فى المجتمع، نابع من تدنى المعرفة العامة بمبدأ الثواب والعقاب، والاقتناع المغلوط بأن الفرد يمكنه أن يحل محل السلطات المعنية فى الحصول على ما يعتقد أنه حقه، بل وأن يُعاقب وبشدة من يعتقد أنه أخطأ فى حقه.
والمزعج فى مثل هذه القناعات التى تنتشر بين فئات مختلفة فى المجتمع المصرى، الأغنياء والبسطاء والمتعلمين والأقل تعليماً، أنها تُحدِث شرخاً كبيراً بين المؤسسات وبين جموع الناس. فحتى الذين لا يجرؤون على ارتكاب جرائم عنف وقتل، يتملكهم الشعور بأنهم فاقدون الحماية القانونية، وأن المؤسسات لا تعطيهم حقهم الطبيعى، وأن القوة بمعناها الشامل هى التى توفر الأمان، وليس الخضوع للقانون والعدالة. وفى المجمل يتشكل عائق نفسى يدفع إلى اللامبالاة والميل إلى العزلة، وفقدان إرادة تحمل المسئولية.
الدلالة الثالثة هى أن اللجوء إلى العنف وإن لم يصل إلى درجة القتل العمد، فإنه يبدو كوحش كامن فى النفوس. فالكثير من مواد العنف تستهلك ببساطة ودون أى تحذير أو توجيه، سواء من قبَل الأسرة أو مؤسسات التربية أو الإعلام أو الدراما. وهنا يلفت النظر جرعات العنف التى تتسرب إلى نفوس الأطفال والنشء بسبب استهلاكهم المتزايد للألعاب الإلكترونية الموصوفة بالاستراتيجية، وهى ألعاب الحرب والقتل والصراعات الفردية، والتى تربط بين الفوز أو التقدم إلى مستوى أعلى من اللعبة وبين تحقيق أعلى معدل من قتل الخصوم وهدم ممتلكاتهم، ما يرسب لدى النشء أن القتل والهدم هو طريق الترقى، وفى أقل تقدير أن ممارسة العنف تؤدى إلى الفوز والحصول على الترقيات الحياتية. ومعلوم أن كثيراً من التوجهات النفسية التى تتحكم فى نظرة الفرد إلى مجتمعه تتشكل فى سنوات عُمره المبكرة، وأن تعرضه لتجارب سلبية يؤدى إلى تشوش نظرته لنفسه ولمن حوله. والكثير من الدراسات المتعلقة بالأطفال وحتى الشباب تدعو إلى منع أو على الأقل الحد من الوقت الذى يتعرض فيه الطفل إلى ألعاب عنيفة أو أفلام وأعمال درامية محلية أو أجنبية تتضمن قيماً وسلوكيات سلبية، باعتبار أن آثارها تمتد إلى مراحل عمرية أعلى. وفى حال انتشارها فالمؤكد أن المجتمع ككل سيدفع ثمناً باهظاً.
وبعض المجتمعات بدأت تطبق إجراءات حاسمة بشأن ما يتعرض له الأطفال والأولاد من مواد ترفيهية تحت مسمى الألعاب الإلكترونية المُحملة بالعنف. فالصين وضعت حداً لا يزيد على ساعة واحدة يتعرض لها الأطفال والأولاد حتى سن 15 عاماً فى الأسبوع فى الفترة ما بين الرابعة إلى الخامسة مساء. وألزمت الشركات بألا تمنح حق اللعب لأى طرف إلا بعد الحصول منه على جميع البيانات الشخصية الحقيقية وليست الوهمية أو المُعدلة جزئياً، وذلك بهدف سهولة الوصول إلى المخالفين وتوقيع العقاب على أسرهم، وتوقيع العقاب على الشركات إن خالفت تلك التعليمات.
والواضح أن إجراءات حاسمة كتلك التى طبقتها الصين ليست فى مقدور العديد من بلداننا العربية، ولذا تصبح المسئولية أكبر على الأسرة ووسائل الإعلام والمدرسة والجامعة فى ترشيد تفكير الأطفال والشباب، ومحاصرة كل مصادر العنف التى قد يتعرضون لها، وتدريبهم على كل أساليب التفكير العقلانى التى تحول دون تورطهم فى المخدرات، أو إدمان الألعاب ومقاطع الفيديو المُحملة بالعنف كحل للمشكلات الشخصية وتحقيق الانتصارات الوهمية.