كان المشهد المصرى فى الأيام الماضية ساحة للأراجيف من نوع معين، وهى شائعات التحفيز التى تهدف إلى تشجيع الناس على الثورة المسلحة ضد الدولة والجيش المصرى! ولذا رأينا على مواقع الوهم والتضليل ليلة 28 نوفمبر؛ أن بعض الطرق قد تم قطعها، وأن بعض الضباط والجنود تم اغتيالهم، وأن بعض المساجين قد هربوا من سجونهم، وكذلك آخرون قد تمردوا على إدارات السجون.. إلخ.
وهى شائعات لم تخرج عبثاً، بل هدفها تحفيز كل الخلايا المناهضة النائمة لحمل السلاح والهجوم على وحدات الجيش وأقسام الشرطة ومؤسسات الدولة المختلفة. وهذا النوع من الشائعات ليس جديداً، بل هو أسلوب معروف من أساليب الحرب النفسية، وتم استخدامه من قبل كثيراً، وكان يؤتى بنتائج كبيرة فى كثير من بلدان العالم ومنها مصر. لكن المواطن المصرى، كان له دور فى فقد هذه الشائعات فعاليتها، بسبب نمو الوعى النقدى عند المواطنين فى فترة قصيرة، نتيجة كم الأراجيف التى تعرّض لها فى سنوات قليلة ثم ثبت زيفها. ومن ثم أصبح الشعب أكثر إدراكاً للحقائق، وأكثر وعياً بالحرب النفسية وأساليبها التى يستخدمها الطامعون فى حكم مصر أو أنصارهم من دعاة الحرب الأهلية أو حلفاؤهم الأجانب أصحاب نظرية الشرق الأوسط الجديد التى تهدف إلى تفكيك الدول الوطنية.
وحتى لا يستهين القارئ بمدى قدرة الشائعات على إحداث تغيير، سأضرب له مثلاً بدور شائعات التحفيز فى اندلاع الثورة الهندية ضد الإنجليز. فمن اللافت أن للشائعات أحياناً من القوة على التحفيز والدفع ما يفوق الحقائق! فحقيقة أن الإنجليز يستعمرون الهند ويستنزفونها ويسخّرون أهلها، لم تحرك للهنود ساكناً ضد الإنجليز، لكن شائعة ما ساعدت الظروف على خلقها هى التى حفّزتهم وأسهمت فى اندلاع الثورة الهندية سنة 1857م، حيث كان الإنجليز يسخّرون الجنود للعمل فى الجيش الإنجليزى، وكان هؤلاء الجنود يستخدمون نوعاً من البنادق تُعمّر من فوهة السبطانة «من أعلى الماسورة»، وكان يتحتم عليهم أن ينزعوا بأسنانهم قطعة من الورقة المشحم من طرف كل خرطوشة، حتى يمكن أن يسقط بعض البارود فى سبطانة البندقية قبل وضع الخرطوشة فى موضعها. واعتمدت الشائعة التحفيزية المحرّضة على الثورة على مسألة الشحم؛ فقال صانعو الشائعة للجنود الهنود المسلمين إن هذا الشحم شحم خنزير، وإن الإنجليز متعمدون هذا حتى يضع الجندى المسلم شحم الخنزير فى فمه، كما قال صانعو الشائعة للجنود الهنود معتنقى العقيدة الهندوسية إن الشحم المستخدم هو شحم بقر، ومن المعلوم أن البقرة كائن مقدس فى العقيدة الهندوسية، ومن ثم فإن نزع الورق المشحم يجعل الهندى يضع فى فمه شحم حيوانه المقدس.
وبالفعل حفّزت هذه الشائعة الجنود الهنود العاملين فى الجيش الإنجليزى -سواء كانوا مسلمين أو هندوساً- على الثورة. وقد حاول الإنجليز حينئذ إقناع الجنود بأن هذا ليس شحم خنزير كما أنه ليس شحم بقر، وإمعاناً فى الإقناع طلبوا منهم القيام بأنفسهم بتشحيم ورق الخرطوش بالسمن النباتى، لكن لم تُجدِ عمليات الإقناع؛ حيث كانت الثورة الهندية قد اندلعت بالفعل!
وفى مصر يتم استخدام شائعات أخرى، لكنها من النوع نفسه، أعنى النوع المحفّز على الثورة. وعلى الرغم من هذا فإن ثورة جديدة لم تندلع فى مصر؛ لأن المعادلة بين الدولة والمواطنين والإعلام قد تغيّرت. كما أن القوى المناهضة قد انكشف كذبها يوماً بعد يوم.
ومن الأراجيف أيضاً التى استُخدمت بكثرة فى الشهور الماضية تلك الشائعات التى تُستخدم كسحب لتغطية الحقائق، وهذا هدف إذا أمكن للشائعات الوصول إليه، تكون قد حققت الكثير، بل ربما يكون خطوة ضرورية وحاسمة على طريق تحقيق النصر؛ لأن تضليل العدو وخداعه طريقة بديهية لا بد من توافرها فى عقل أى قيادة تريد أن تحسم الصراع لصالحها، فإطلاق الشائعات المنظمة والمحبوكة إذا نجح فى تغطية الحقائق لا يؤدى فقط إلى تضليل الخصوم، وإنما يؤدى كذلك إلى تخديرهم. وهذا بالضبط ما فعله «السادات» على نحو ذكى قبل حرب أكتوبر؛ حيث قابل شائعة الجيش الإسرائيلى الذى لا يُقهر بشائعة أذكى وأمكر؛ فهيّأ للإسرائيليين أنه مصدق ما يشيعونه عن جيشهم، وفى المقابل فإنه لم يواجه شائعتهم بشائعة مضادة على طريقة «عبدالناصر» من أن جيشه أسطورى أيضاً وسيرمى إسرائيل فى البحر! وإنما أوحى إليهم بأنه أضعف من أن يدخل مع إسرائيل فى حرب، مع أن هذا كان يعرّضه لضغط وسخط لتضليل الإسرائيليين وإيهامهم بأن جمهورية مصر العربية لن تحارب؛ حتى تكون الحرب عند وقوعها مفاجئة، ومحققة لشرط المبادأة بكل أبعادها.
وهذا النوع من الشائعات قد ينجح وقد يفشل، حسب عوامل كثيرة ومتعدّدة، وقد استخدمته بعض القوى فى الصراع على السلطة منذ ثورة 25 يناير؛ ونجحت فيه بعد الثورة لسنوات. لكن هذه القوى تحقق الآن الفشل تلو الفشل فى كل خطوات وتكتيكات الحرب النفسية التى تقوم بها. ومع ذلك تواصل سعيها للتضليل باستخدام الشائعات كسحب للتغطية على الحقائق، حيث تغتال بعض الجنود فى سيناء، ثم تزعم أنهم اغتيلوا فى ليبيا! وتفجر المنشآت والجنود ثم تزعم أن طرفا ثالثاً هو من يقوم بهذا، أو تتمادى فى السذاجة وتزعم أن الدولة نفسها هى الفاعل!