مغتربات في العاصمة.. "القاهرة رايح مش جاي"
"سافر تجد عوضا عمن تفارقهم".. تهاجم المقولة الرومانسية خاطر شابات من جميع أنحاء الجمهورية، يسعين والحلم نصب أعينهن، والعادات والتقاليد من خلفهن، والعراقيل لا تنتهي تحت أقدامهن، الخطوة الأولى كفيلة بوضع إحداهن وجها لوجه أمام واقع اقتصادي متأزم واجتماعي مضطرب، لكن الوصول أصبح مسألة وقت بمجرد الخروج من "الباب الحديد" في محطة رمسيس، وبين نظرة على تذكرة وصول القاهرة وحلم يتحقق، قصص غربة واغتراب لا تنتهي.
لما الخوف يدق البيبان
الواحدة بعد منتصف الليل، السكون يحيط بالمكان لا يقطعه سوى "تكتكة" أصابعها على "الكيبورد"، وطرْق على الجدران اعتادت أن يضايقها به الجيران، لكن هذه الليلة صوت غير مألوف يتسلل إلى مسامعها، خطوات ثقيلة تقترب من الباب ثم تبتعد.
لحظات مرت قبل أن يغادر التردد الشباب المقيم في الشقة المقابلة لها، يطرقون الباب بقوة، "افتحي الباب يا إما هنقتلك، الليلة دي بتاعتنا"، يربكها صوت دقات قلبها المتسارعة، تصرخ لكن صوتها يختنق في جوفها، لا ينقذها سوى فشلهم في اقتحام الشقة.
ليلة مرعبة عاشتها "غادة" التي تركت موج البحر ورائحة الشتاء واليود والأسماك، إلى سكون النيل ورائحة الغبار وعوادم السيارات الكثيفة، لتبدأ حياة جديدة بعيدا عن دفء الأهل والعائلة والأصدقاء، رحلت عن الإسكندرية، أرض الذكريات، إلى القاهرة، أول من استقبلها كان بيت للمغتربات بشارع فيصل، لا أغطية على الأسرة ولا أدوات للمطبخ أو ستائر، "النقل من كفر عبده لفيصل كان حاجة صعبة، بس كان عندي هدف أكبر مستعدة أستحمل عشانه أي ظروف"، تروي الشابة الثلاثينية كيف تخلت عن "السيمون فيميه" و"الكافيار" و"الإستاكوزا" لتتناول "الفسيخ" لأول مرة في حياتها بعد إلحاح من رفيقتها في الدار.
عينان واسعتان، ووجه كالبدر في استدارته، أنف مناسب الحجم وفم دقيق.. "تقاطيع" جعلت من حياة "المغتربة" ساحة حرب، أربع سنوات شاكست خلالها السكندرية الحسناء "العاصمة" وسكانها، تنقلت خلالها بين عدة أحياء شعبية في القاهرة حتى استقر بها المطاف في منطقة "عابدين"، تقول: "صاحبة الشقة تطلب مني المبيت في العمل والعودة في الصباح لأن التأخير لبعد منتصف الليل "غير مسموح" لشابة عزباء"، شارحة كيف لقبها الجيران باسم إحدى الراقصات لبقائها يوميا إلى وقت متأخر في العمل.
العيلة "دفا".. بس الحلم أولى
عظامها تتكسر، يدها ترتجف، ونفسها يضيق، تحاول النهوض من الفراش فتخونها عضلاتها المرتخية، يوم آخر تهاجم فيه أعراض النزلة الشعبية الحادة "أسماء"، بينما تمكث وحيدة في بيت المغتربات بـ"العاصمة"، فرفيقات السكن سافرن إلى "البلد" من أجل عطلة العيد، وأهلها في بيت العائلة بالشرقية.
ليست المرة الأولى التي تمرض فيها "مصممة الجرافيك" دون أن تجد من يسعفها أو يحملها إلى الطبيب، مشاعر متضاربة تجتاح الفتاة العشرينية كلما تعرضت لهذا الموقف، وتساؤل يفرض نفسه عليها باحثا عن إجابة حول صحة قرارها بمغادرة الشرقية إلى القاهرة قبل 10 سنوات من أجل الدراسة ثم العمل.
"فكرت كتير إني أرجع البلد وأهرب من الوحدة لدفا العيلة، بس في الآخر بلاقي نفسي مش قادرة أضيع اللي حققته السنين اللي فاتت"، كلمات تقولها "أسماء" التي تقرر البقاء في العاصمة بعد كل نقاش تخوضه مع نفسها، في محاولة منها لاستكمال حلمها وتجنبا لـ"شماتة" الجيران والمعارف في بلدتها بالشرقية ممن ينتقدون استقلالها عن بيت العائلة إعمالا بمقولة: "البنت ملهاش غير بيتها وجوزها".
استقلال مادي، ونجاح مهني حققته الشابة بعد اعتماد كامل على أسرتها خلال الـ3 سنوات التي أعقبت تخرجها من الجامعة، تقول: "مرتبي في الأول مكنش بيقضي حتى إيجار البيت، بس أنا حلمي كان أكبر من إني أكسب فلوس".
"الدور" يحكم الجميع، فدخول الحمام بالدور، استخدام البوتجاز بالدور وحتى "نشر الغسيل"، إلى جانب خلافات النظافة وشغل أرفف الثلاجة، مواقف تمر بها الفتاة العشرينية يوميا في بيت "المغتربات" وعلى الرغم من ذلك ترى الشابة أن الدار تحقق لها قدرا من الراحة، تقول: "صحابي مأجرين شقة وزوجة البواب بتعاملهم معاملة سيئة جدا لأنهم عايشين لوحدهم، مع إنها بتتعامل مع باقي السكان كويس"، مؤكدة أنها تتحمل مشكلات الدار حتى لا تتعرض لمثل هذه المواقف.
ليل الغربة مالوش آخر
على طاولة في أحد المطاعم المطلة على النيل بمنطقة الزمالك، تجلس الشابة وبين يديها "لاب توب"، تسابق الزمن كي تنتهي من إرسال بعض الرسائل الإلكترونية لعملاء الشركة التي تتولى إدارتها التنفيذية، لكن يقطع انهماكها في العمل شاب وفتاة يسيران متشابكي الأيدي، فتتدافع إلى عقلها مشاهد مشابهة كانت بطلتها مع خطيبها السابق.
خطوبة "رباب" على "أحمد" استمرت عاما كاملا، قبل أن يستجيب الشاب أخيرا لضغوط والدته التي اعترضت على ارتباطهما منذ البداية، بسبب رأي الجيران والمعارف فيها باعتبارها "فتاة مغتربة"، تعيش بعيدا عن أهلها.
صراع تعيشه الشابة الثلاثينية منذ انفصال خطيبها عنها، بين العودة إلى بلدها وقبول الزواج من أحد "العرسان" الذين يتقدمون لخطبتها هناك، وبين طموحها وإخلاصها في عملها، الذي نقلها من سكرتيرة إلى مديرة تنفيذية في 5 سنوات، تقول: "اتقدملي شباب عايشين في سمنود، تعليمهم كويس ومتوافقين معايا فكريا لكن كنت مش بوافق لأني كده حضطر أرجع البلد تاني وحضيع كل اللي حققته".
رغبة ملحة في العودة تسيطر على الشابة التي تخطت الثلاثين بـ6 سنوات، فالزواج وإنجاب الأطفال أمنية تستعصي على التحقق مع بقائها "مغتربة" بعيدا عن الأهل، كما تقول.
حكايات موجعة تصادف كل حالمة تستقبلها "العاصمة" بـ"مضايقات الجيران" و"الوحدة" و"العنوسة"، وما بين المقاومة والاستسلام تتواصل رحلتهن في المدينة، التي ستنجب لهن حلما.. يوما ما.