اتفاقية 1959 والشراكة المصرية السودانية

كان «عبدالناصر» يرى أن التنمية الاقتصادية للبلاد لن تتحقق إلا من خلال مشروعات رى عملاقة على نهر النيل، وكان يتبنى مشروع السد العالى لمنع إهدار مياه الفيضان إلى البحر المتوسط واحتجازها داخل أراضى مصر وبعض من أراضى السودان لصالح كلا البلدين. والسد العالى كان مضاداً للخطط البريطانية والأمريكية بتخزين المياه فى إثيوبيا وأوغندا، مما يحرر إرادة مصر وسياستها الخارجية وعدم الخضوع للابتزاز الغربى فى إقامة مشاريع مائية فى دول الحوض المستعمرة فى ذلك الوقت. وكان السد العالى لن يرى النور ما دام الإنجليز موجودين فى مصر والسودان. وكان شرط الإنجليز للخروج هو أن يمارس السودانيون حقهم فى تقرير مصيرهم، وكان الحكم الذاتى للسودان قد أصبح مطلباً سودانياً شعبياً تقوده القوى الوطنية هناك. وكانت مصر لا تستطيع الوقوف عائقاً أمام رغبات الشعب السودانى، وكان الأمل المصرى وقتها هو استقرار السودان الشقيق ليكون شريكاً قوياً لتأمين الامتداد الجنوبى المصرى، عسى أن تتحقق الوحدة بين البلدين فى المستقبل. واتفقت مصر مع بريطانيا على اتفاقية الحكم الذاتى للسودان فى فبراير 1953، على أن يستمر الحكم الذاتى لمدة 3 سنوات يتم بعدها الاستفتاء على الانفصال أو البقاء فى اتحاد مع حكم مصر. وتمت الانتخابات البرلمانية فى السودان عام 1955، وفى أول يناير 1956 وبدون إجراء استفتاء شعبى، أعلن رئيس الوزراء السودانى أمام البرلمان السودانى المنتخب استقلال السودان عن مصر، ثم تم تعيين عبدالله خليل من حزب الأمة الفائز فى الانتخابات البرلمانية رئيساً للوزراء. وتقدمت الحكومة السودانية عام 1954 بطلب للتفاوض مع مصر على إنشاء سد الروصيرص على النيل الأزرق. وكان السودان حينئذ يستخدم كامل حصته المائية التى تنص عليها اتفاقية 1929، وكان بناء هذا السد سيؤدى إلى انقاص حصة مصر المائية. واقترحت مصر على السودان مشروع السد العالى لزيادة الحصة المائية لكل من البلدين مما يمكن السودان من بناء سد الروصيرص. وبدأت المفاوضات المصرية السودانية حول السد العالى، وفى أكتوبر 1957 طالبت إثيوبيا بالدخول طرفاً ثالثاً مع السودان ومصر فى مباحثات مياه النيل. وأرسلت إثيوبيا مذكرة إلى الأمم المتحدة تذكر فيها بأنها لا تقر باتفاقيات مياه النيل، وأنها تشكو مصر لشروعها فى بناء السد العالى وقيامها بالإعداد لاتفاقية ثنائية مع السودان بدون إشراكها فى هذه المفاوضات. وفى نفس العام اقترحت الولايات المتحدة الأمريكية تنفيذ خزان على النيل الأزرق وعلى بحيرة تانا لتوليد الطاقة بدلاً من مشروع السد العالى. وتقدمت بريطانيا رسمياً بطلب للدخول فى مفاوضات مياه النيل مع مصر والسودان نيابة عن مستعمرات شرق أفريقيا. وفى أغسطس 1959 وصل إلى القاهرة الوفد السودانى للتفاوض حول السد العالى، وانتهت المفاوضات فى نوفمبر 1959، وتم تصديق السودان على الاتفاقية بعدها فى البرلمان المنتخب. وتتكون اتفاقية 1959 من ستة أبواب، الأول عن الحقوق المائية المكتسبة للبلدين قبل بناء السد العالى التى كانت تبلغ 48 مليار متر مكعب لمصر، و4 مليارات متر مكعب للسودان، وذلك حسب ما جاء فى اتفاقية 1929. والباب الثانى ينص عل حصتى مصر والسودان بعد استكمال بناء السد العالى والاستفادة بمياه النيل التى كانت تفقد إلى البحر المتوسط، لتصبح حصة مصر 55.5 مليار متر مكعب وحصة السودان 18.5 مليار متر مكعب فى السنة. والباب الثالث من الاتفاقية ينص على قيام مصر والسودان بمشاريع منع فواقد النهر فى مستنقعات بحر الجبل وبحر الزراف وبحر الغزال ونهر السوباط وحوض النيل الأبيض، لزيادة إيراد النهر وتقسيم العائد المائى والتكاليف مناصفة بين الدولتين. والباب الرابع ينص على إنشاء هيئة فنية مشتركة من الدولتين ويحدد صلاحيات هذه الهيئة من الإشراف على البحوث الخاصة بمشاريع زيادة إيراد النهر، والإشراف على المشاريع التى تقرها الدولتان، ووضع نظم التشغيل لهذه المشروعات داخل وخارج السودان، ومراقبة نظم التشغيل لهذه المشروعات، ووضع نظام لمواجهة السنوات التى يشح فيها فيضان النيل. والباب الخامس للأحكام العامة، وينص على أنه فى حالة الحاجة إلى إجراء بحث فى شئون مياه النيل لأى دولة من دول الحوض فإنه على الدولتين أن يكون لهما رأى موحد بشأنه بعد دراسته بمعرفة الهيئة الفنية المشتركة، وإذا أسفر البحث عن الاتفاق على قيام منشآت فى هذه الدولة، فعلى الهيئة المشتركة أن تضع بالتنسيق مع الدولة المعنية تفاصيل التنفيذ ونظم التشغيل والصيانة والإشراف على ما يتم التوصل إليه من اتفاقيات مع هذه الدولة. ان اتفاقية 1959 ليست مجرد اتفاقية لتحديد حصص مائية للبلدين بل هى اتفاقية شراكة كاملة فى التعامل مع ملف حوض النيل كجبهة واحدة وبرأى واحد تقوم بصياغته الهيئة الفنية المشتركة. وباستثناء بعض الفترات العجاف فى علاقات الدولتين مصر والسودان، أثناء تولى الترابى مقاليد الحكم، فإن مصر والسودان التزمتا بكل ما جاء فى أبواب وبنود اتفاقية 1959. وأثناء فترة تكليفى بوزارة الرى فى مصر (مارس 2009 — يناير 2011) لم تختلف مصر والسودان على أى تحرك مشترك بالنسبة لمبادرة حوض النيل أو اتفاقية عنتيبى، ولكن ظهر التباين والاختلاف فى توجهات البلدين بعد ثورة يناير المصرية، حتى أصبحت السودان داعمة لإثيوبيا، أو فى أحسن الحالات تحاول أن تلعب دوراً وسيطاً بين مصر وإثيوبيا، وذلك بدلاً من الشراكة الاستراتيجية مع مصر. إن السودان سيكون له فوائد فنية واقتصادية وسياسية مباشرة وغير مباشرة من دعمه لسد النهضة الإثيوبى، ولكن سيصيبه أيضاً العديد من الأضرار البيئية والمائية من إنشاء السد بهذا الحجم والسعة الكبيرة. ومصر لا تمانع فى إقامة السد، ولكنها تمانع فى هذه السعة الهائلة للسد التى سوف تهدد شتى مظاهر الحياة فى مصر. مصر لا تمانع فى سد أصغر يحقق الفوائد السودانية ومعظم الأهداف الإثيوبية من بناء السد وأهمها تصدير الكهرباء إلى مصر والسودان. وإثيوبيا على الجانب الآخر كما أعلنت رسمياً من قبل، لا تفكر فى هذا السد وحده بل تخطط لإقامة العديد من السدود الضخمة والصغيرة على النيل الأزرق وروافده مما يؤثر تأثيراً بالغاً على الأمن القومى لكل من السودان ومصر. إن المصالح القومية لكل من مصر والسودان تتطلب تكاتف الدولتين والعمل معاً كما تنص عليه اتفاقية 1959، والتفاوض المشترك مع إثيوبيا لتقليل حجم سد النهضة ولمنع إقامة أى سدود ضخمة أخرى على النيل الأزرق. لقد حان الوقت لعقد اجتماع عاجل للهيئة الفنية المشتركة لوضع مبادرة مشتركة حول الحجم المناسب للسد على ضوء نتائج الدراسات المصرية السودانية. وقد تتطلب هذه المرحلة التاريخية الحرجة أن يقوم الرئيسان السيسى والبشير بأنفسهما بالذهاب معاً إلى إثيوبيا ومطالبة القيادة السياسية هناك بسعة أقل لسد النهضة، بدلاً من انتظار نتائج دراسات اللجنة الثلاثية التى قد تأخذ وقتاً طويلاً مما قد يضيع أى فرص للتفاوض الحقيقى مع إثيوبيا.