كان لى شرف إلقاء محاضرة فى الهيئة الاقتصادية لميناء بورسعيد بتنظيم من أمانة الشباب فى المحافظة منذ أيام، دائماً ما أبدأ حديثى مع الشباب بسؤال يستفز الانتباه لديهم، فسألتهم: «من منكم يسعى للسفر إلى الخارج للعمل؟»، وبدأت الأيادى فى الارتفاع على استحياء، وبدأت النقاش بلا هوادة.
قلت لهم: «عظيم أن يكون لك رغبة فى السفر والتجربة، ولكن ما الذى يمكنك فعله فى الخارج ولا تفعله هنا فى بلادك؟»، صمتوا ورفعت فتاة منهم يدها وقالت إنها خريجة حقوق وحصلت على الماجستير بتقدير رغم تعرّضها لحادث قبل الامتحان، وتسعى للحصول على الدكتوراه، ثم السفر بعد أن فقدت الأمل فى الالتحاق بإحدى الهيئات القضائية بسبب ظروفها الصحية بعد الحادث، وقالت إن كل شىء فى مصر بالواسطة! وختمت حديثها بالقول: «آدى مصر»!!
شكرتها ثم عرضت لهم فيلماً وثائقياً قصيراً عن حياة أوبرا وينفرى، أشهر مذيعات العالم، يحكى كيف اغتُصبت وهى طفلة مرتين فى التاسعة والرابعة عشرة، وأنجبت طفلاً غير مكتمل النمو سرعان ما تُوفى، وكيف هجرتهم أمها تاركة لها أخاها مريض الإيدز الذى سرعان ما توفى، بينما جدتها تُعدها منذ صغرها للعمل خادمة. ولكنها تحدّت كل هذا والتحقت بالعمل كمذيعة فى إحدى القنوات التى سرعان ما طردت منها لسرعة تأثرها وبكائها على الشاشة. فتحدّت كل الظروف والتحقت بقناة أخرى وعملت على تكوين ذاتها وتثقيفها حتى صارت إحدى أيقونات العالم فى الصبر والنجاح وتحدى الظروف.
بعد انتهاء الفيلم، نظرت للفتاة وقلت لها: «آدى أمريكا التى يسمعون عنها أنها بلد الحقوق ومراعاة الطفولة وعدم التمييز، فهل استكانت أوبرا؟»، وأوضحت لها أن الحياة أبداً لم تكن عادلة، نزلناها كعقاب لا كثواب، وفلح من نجح فى تحدى قَسم الشيطان بعزة جلال الله ليغوينا أجمعين حتى لا يذهب للنار بمفرده.
توالت المداخلات وقالت فتاة تخرّجت منذ شهرين فى كلية السياحة والفنادق إنها تسعى للسفر لأن المعروض عليها من عمل لا يتجاوز راتبه 2000 أو 3000 جنيه وهذا لا يكفى لشراء سيارة وشقة! ثم قالت أخرى إنها فى السنة الرابعة بكلية التربية ولا تجد حضانة تقبل بتدرّبها فيها؟! فردت أخرى فى السنة النهائية من كلية التجارة إن هذا غير صحيح، لأنها نجحت فى العمل فى إحدى الحضانات براتب 300 جنيه فى الشهر، وتعلمت وستُكمل هذا المسار بعد التخرج بعد أن اكتسبت ثقة الآباء والأمهات. وقالت ثالثة إنها عملت فى مجال التسويق براتب ضعيف، ثم جاءت كورونا لتقضى على أحلامها بعد تسريحها، فأسست عملها من المنزل «أون لاين» فكسبت أضعاف ما كانت تتقاضاه. وقالت إحدى الأمهات إن ولديها سافرا للخارج بالفعل، ولكنهما لم يمكثا كثيراً لسوء الوضع، فعادا وسعيا فى سوق العمل بوضع سيرتهما الذاتية على الإنترنت، فالتحق أحدهما بالعمل ببنك والآخر بجامعة زويل وبدون واسطة.
وهكذا تعدّدت الحكايات التى كانت ترد على اليائسين، لتؤكد أن النجاح قائم بيننا، ولكنه بحاجة إلى سعى وتحدٍّ ورضا بالقليل ليأتى الكثير حتى لو كان على عكس أحلام خططنا لها.
وللحديث بقية من بورسعيد.