مثَل مصرى جميل يعبِّر عن الطريقة التى يتعامل بها الإنسان الذى استبد به العطش، حين يصبح على استعداد لأن يفعل أى شىء من أجل الوصول إلى الماء.
فالماء بالنسبة للمصريين جوهر من جواهر حياتهم شأنهم شأن البشر السارحين فى دنيا الله، بل قل إن الماء الذى يجرى فى النيل الخالد هو أصل تاريخ وأساس حاضر من يعيشون فوق تراب هذا البلد.
النيل أساس الملك.. تلك حقيقة تشهد عليها التجربة المصرية منذ عصر فرعون موسى الذى كان يرى أن الأنهار التى تجرى من تحته نيلاً عذباً تجعل من مصر جنة الله فى أرضه، وحتى زمن الوالى محمد على الذى طمح إلى بناء دولة كبرى تستطيع أن تنافس كبريات دول العالم فى عصره.
كان النيل «أساس ملك» محمد على الذى ارتكز على «الاقتصاد الزراعى».. فالنيل خصوبة وزراعة وحاصلات صدّرها محمد على وخلفاؤه فى الحكم لتشكل المصدر الأهم لإنعاش الاقتصاد المصرى.
وليس يخفى عليك أن محمد على ومن حكم مصر من أولاده وأحفاده كانوا حريصين كل الحرص على جعل النيل بحيرة مصرية خالصة، وخاض الوالى الكبير حروباً طاحنة فى أفريقيا، جعلته يضع قدماً مصرية فى السودان وبعض المناطق التى تليها، ومن بعده حاول الخديو إسماعيل السيطرة على إثيوبيا، لكن مشروعه لم يحالفه التوفيق.
وبالتالى فالنيل الخالد هو أهم ملف فى حياة المصرى وحياة من يحكمه.
تاريخ الفلاح المصرى يشهد على صراعه المرير من أجل الوصول إلى الماء، حتى لو اقتضى الأمر أن يكسر الحوض، وأن يسيل دمه فى سبيل ذلك، ولعل رواية عبدالرحمن الشرقاوى -رحمه الله- المعنونة بـ«الأرض» أكثر الروايات تعبيراً عن علاقة الفلاح المصرى بالماء، وهى علاقة تكاد تكون ثابتة عبر تاريخه.
لا أحد فى مصر يتسامح فى قضية «النيل».
فالقضية ببساطة ليست قضية سلطة تحكم بل قضية 110 ملايين إنسان يعلمون كلهم أن النيل أصل التاريخ وجوهر الجغرافيا فى حياة هذا البلد.
لا أحد فى بر مصر يتسامح فى نقطة ماء واحدة تريد إثيوبيا منعها عنا، ومن يخطط لذلك لا يعلم أن أبسط مواطن يعيش فوق هذه الأرض إذا عطش كسر الحوض حتى يصل إلى الماء.
لقد أقام المصرى الدنيا وأقعدها عندما فقد سيناء عقب نكسة 1967، ولم يصبر على حقه حتى قاتل وحارب فى 1973، ليس من أجل استرداد الأرض فقط، ولكن من أجل استرداد كرامته أيضاً.
النيل بالنسبة للمصريين ليس قضية ماء يجرى شاء الله أن يجعله سر حياتهم، لكنها مسألة كرامة أيضاً.
من يتابع تفاعل الكثيرين مع تصريحات المسئولين المصريين حول السد يستخلص بسهولة أن المسألة باتت بالنسبة للمصرى مسألة كرامة أيضاً.
النيل قضية شعب.. وأساس ملك.. ويخطئ من يتفاعل مع هذا الملف بعيداً عن هذين الأمرين.. يخطئ كثيراً!.