بالصور| رحلة البحث عن رواية لنجيب محفوظ في "سور الأزبكية"
في قلب القاهرة، شارع يضيق بالمارة، مكتبات متراصة بجوار بعضها البعض ومصنوعة من الأرابيسك، تفوح منها رائحة الكتب القديمة لتمتزج بألوانها الزاهية التي لم تتأثر كثيرًا بمرور الزمن عليها، لتجد نفسك ضائعًا داخل عالم سحري.. جرعات متنوعة من الكتب التاريخية والدينية لتجد ضالتك دائمًا هناك، أغلفة المجلات والصحف تنبئ عن نفسها ببراعة، وآلاف الكتب في مختلف المجالات تحملها رفوف خشبية بسيطة.
سور الأزبكية
وجوه تحوم حول المكتبات لتتصفح المعروضات في هدوء، بحثًا عن عنوان أو غلاف أو كاتب يعشقون قلمه وكتاباته، ترتفع الأصوات وتنخفض، وتنادي بأسماء كتَّاب ومؤلفين بحثًا عن إبداعاتهم، كتب جديدة وأخرى مستعملة، ولكن تظل الفوضى سيدة الموقف حين تحتل الضوضاء وعشوائية الباعة الجائلين ويفقد "سور الأزبكية" سحره الغامض في وجدان محبي الكتب ومريديها.
الفوضى تسيطر على سور الأزبكية
"قواعد العشق الأربعون، الفيل الأزرق، أريد رجلًا، وعزازيل" كتب بطبعات جديدة احتلت المشهد داخل سور الأزبكية، تم رصها بعناية شديدة لمحبي "الأدب الجديد"، كما أطلق عليهم باعة السور، حيث هي الكتب التي تلقى الرواج الشديد، والاهتمام الأكبر، فتجد كتب الطهي والموضة تحتل الصدارة، ليغيب عن المشهد أسماء جيل الرواد الذي صنع الأدب نفسه، والتي شكَّلت وجدان أجيال كاملة.
كتب الطهي والموضة تحتل الصدارة
وفي الذكرى الثامنة لوفاته التي توافق غدًا 30 أغسطس، انتشرت في "الأزبكية" كتب لا يتجاوز عددها العشرة، يكسوها الغبار، غابت عنها أهم أعماله، وغزا أوراقها اللون الأصفر، برائحة تنبئ عن تخزينها لفترة طويلة، وإهداءات بأقلام خطت طريقها داخل الكتب مختفية داخل الأغلفة المتهالكة، ليصعب معها التصديق بأنها ترجع لـ"أديب نوبل العتيد" نجيب محفوظ.
الإهمال يصيب كتب نجيب محفوظ
لا يمكن اختزال نجيب محفوظ في جائزة نوبل، حيث حظي أدبه بشعبية شديدة، فتعتبر كتاباته هي طريقك إلى معرفة مصر الحقيقية من الداخل، فلم يكتفِ بالدخول إلى عالم خفي بل امتدَّت كتاباته داخل الشخصيات ليتناولها بمشرط الطبيب من خلال قلم الأديب، فبقاء روايات محفوظ غير مرتبط بصفتها إبداعًا أدبيًا روائيًا، بل بصفتها جزءًا من تاريخ مصر الأدبي والاجتماعي.[FirstQuote]
وتميَّز أدب محفوظ بمروره بعدد من المراحل بداية من الواقعية التاريخية، كما في "رادوبيس"، "كفاح طيبة"، "عبث الأقدار"، ثم انتقل بعدها إلى الرواية الواقعية التي تميزت بها أغلب أعماله كما في "القاهرة الجديدة"، "خان الخليلي"، "زقاق المدق"، ثم إلى الكتابة الرمزية كما فعل في ملحمة "أولاد حارتنا" و"الحرافيش"، انتهاء إلى المرحلة المتصوفة كما في "أصداء السيرة الذاتية" و"أحلام فترة النقاهة".[SecondQuote]
"كتب نجيب محفوظ، ما حدش بيشتريها، وزبونها قليّل"، قالها محمد عبدالسميع، بوجه يخلو من التعبيرات، جالسًا في مكتبته العتيقة، على مقعد صنعه من كتب قديمة متراصة بعضها فوق بعض، ويضيف الشاب الثلاثيني: "معظم رواد السور لا يعيرون كتب نجيب محفوظ أي اهتمام، والمتوفِّر منها الطبعات القديمة فقط، حيث رخص ثمنها، فالكتاب طبعة قديمة يتراوح سعره ما بين سبعة وعشرة جنيهات، حسب حالة الكتاب، أما الطبعات الجديدة فهي مكلفة جدًا على بعض رواد السور، حيث يتراوح سعرها ما بين 20 و25 جنيهًا".
ضعف الإقبال على كتب الأدب
وعن الطبعات الجديدة فلا يُباع منها إلا "أولاد حارتنا، حرافيش، الثلاثية"، بسبب الإقبال الشديد عليها، ويتابع محمد "الإقبال على نوعية كتب نجيب محفوظ مش على طول، أحيانًا الناس بتيجي تدور عليها، وأحيانًا ماحدش بيسأل عليها نهائي"، ولكن رواية "أولاد حارتنا" حالة خاصة، فهي الرواية الأكثر قراءة من الشباب، فقد بيعت كل الطبعات القديمة والجديدة، فيقول بائع الكتب: "الرواية كلها كُفر وإلحاد، وهو ده السبب مخليها شغالة، الناس بتدور على الهَبَل والخرافات، مش الحاجات الهادفة".
ووسط زحام الكتب، بداخل إحدى المكتبات المعمرة بالعلوم، يقف عم سعيد أبوبكر، رجل سبعيني، تظهر لوحة فنية من التشققات نحتها الزمن على وجهه، يزيل الغبار الذي غزا كنزه الثمين، "نجيب محفوظ كان زمان، لما الناس كانوا بييجوا يسألوا على كتبه، دلوقتي الدنيا اتغيرت، والعقول كمان اتغيرت"، يقول هذه العبارة، وهو متجه نحو "رَفٍ" آخر ليتابع عمله، ويضيف "اللي بيطلب نجيب محفوظ أنا بعرفه، بيبقى باين عليه إنه مثقف، مش زي الناس التانية، اللي يجيبوا أي كتب وخلاص" فكتب نجيب محفوظ لأصحاب العقول "الراقية"، ولم يحاول عم سعيد شراء طبعات جديدة لكتب محفوظ، لأن الطبعات الجديدة مكلفة، أما الطبعات القديمة، فهي رخيصة ماديًا.[ThirdQuote]
محمد عبدالعزيز، رجل في منتصف الخمسينيات، اشتعل رأسه شيبًا، يقف في وسط المكتبة، ليعيد ترتيب الكتب، معتقدًا أن تغيير أماكن الكتب يمكن أن يجذب الزبون، "ولا نجيب محفوظ، ولا إحسان عبدالقدوس، ولا طه حسين، ولا عباس العقاد، الناس دي راح زمنها خلاص"، قالها موضحًا الحال الذي أصبحت عليه هذه الكتب، التي سطرتها أقلام أصبحت نادرة في هذا الزمان، فالإقبال الأقوى على كتب "بعد الثورة" كما وصفها عبدالعزيز، ويضيف "الكُتَّاب الشباب واكلين الجو، وهمّا اللي شغالين"، ومن يقرأ لمن هم مثل نجيب محفوظ، من كانوا يقرأون لهم في شبابهم.