منذ بضعة أيام خرج علينا «أبوبكر شيكاو»، زعيم جماعة «بوكو حرام» النيجيرية، وأعلن إقامة الخلافة الإسلامية فى ولاية «بورنو» شمال شرق البلاد، لينضم إلى كتيبة الخلفاء الذين احتشدت بهم ساحة المسلمين خلال السنوات الماضية. فهناك خليفة سبق أن أعلنت عنه «طالبان» وهو «الملا عمر» الذى كان يلقبه أسامة بن لادن بـ«أمير المؤمنين»، وهناك أبوبكر البغدادى خليفة «داعش»، وهناك «الجولانى» الذى أعلن نفسه خليفة داخل «حلب» بسوريا، وهناك «أبولقمان» والى «داعش» فى مدينة «الرقة» السورية الذى أعلن انشقاقه عن «البغدادى» وطالب بسحب الخلافة منه!
نحن إذن بصدد خمسة خلفاء مرة واحدة، من لا يعجبه هذا فقد يروق له ذاك! المسألة تبدو كوميدية بعض الشىء، لكنها فى المجمل تعكس واحداً من الأصنام الفكرية التى علا كعبها وارتفع مقامها عبر التاريخ القديم والحديث والمعاصر للمسلمين، والمتمثل فى «صنم الخلافة». فالقرآن الكريم لم ينص على نظام محدد للحكم، والنبى صلى الله عليه وسلم لم يكن ملكاً، بل رفض المُلك عندما عرضه عليه المشركون، ورد عليهم -كما يحكى صاحب السيرة الحلبية- قائلاً: «ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم، ولا الشرف فيكم، ولا الملك عليكم، ولكن الله بعثنى إليكم رسولاً، وأنزل علىّ كتاباً، وأمرنى أن أكون لكم بشيراً ونذيراً، فبلغتكم رسالات ربى، ونصحت لكم، وإن تقبلوا منى ما جئتكم به فهو حظكم فى الدنيا والآخرة، وإن تردوه علىّ أصبر لأمر الله تعالى حتى يحكم الله بينى وبينكم».
إننى أستطيع أن أتفهم حلم الكثير من المسلمين بدولة يحكمها عطوف مثل أبى بكر، أو عادل مثل عمر، أو شيخ جليل مثل عثمان، أو فقيه لا يخشى فى الحق لومة لائم مثل على، رضى الله عنهم أجمعين، لكننى لو افترضت أن ما ورد حول فترة الخلافة الراشدة داخل كتب التراث دقيق ويعكس الصورة التى عاشها المسلمون الأوائل بنسبة مائة فى المائة، فإن ذلك لا يمنع أن هذه الحقبة لم تستغرق أكثر من ثلاثة عقود، ليمكث المسلمون بعدها قروناً طويلة فى ظل الخلافة الأموية ثم العباسية ثم العثمانية. وما أكثر ما شهدت فترات الحكم تلك ظهور خليفة أو اثنين أو ثلاثة هنا أو هناك، تماماً مثلما يحدث الآن. وكان السر فى ذلك هو التمرد على الاستبداد، لأن تاريخ الخلافة بعد مرحلة الراشدين الأربعة كان متأسساً على الاستبداد والاحتكام إلى السيف فى الوصول إلى الحكم، بغض النظر عن رضا الناس أو عدم رضاهم. وليس أدل على ذلك من أن عمر بن عبدالعزيز، رضى الله عنه، خرج على الناس بعد أن آلت إليه الخلافة -فى العصر الأموى- وقال لهم: «لقد خلعت بيعتى عنكم فاختاروا لأنفسكم»، لأنه كان يعلم أن بنى أمية غلبوا الناس على أمرهم بالسيف، حتى قضى الله على ملكهم بمن يغلبهم بالسيف أيضاً، عندما تأسست الخلافة العباسية على يد أبى العباس الملقب بـ«السفاح» الذى تمكن من القضاء على مروان بن محمد، آخر الخلفاء الأمويين، وكان لقبه «الحمار». كذلك كان «صنم الخلافة» بعد حقبة الراشدين الأربعة ينتقل من «حمار» إلى «سفاح»!