بعيداً عن التفاخر الأجوف والتهليل الخاليين من أى مضمون جاد، يتعين أن نضع العلاقات بين مصر والاتحاد الروسى فى سياقها الاستراتيجى السليم، إن كان سيتيسر توظيف هذه العلاقة المستجدَّة لمصلحة مصر وشعبها.
مؤخراً، بعض موضوعات الإعلام فى مصر بدت وكأنها يغشاها، ويشوه مضمونها، الحنين، غير العقلانى لحلم قديم مضى ولن يعود.
الحُلم هو علاقة مصر والاتحاد السوفيتى فى ستينات القرن الماضى. هذا الحنين أو التمنى الرغبى، يتجاهل أن الاتحاد الروسى بقيادة «بوتين»، لم يعد الاتحاد السوفيتى بقيادة «خروتشوف» الذى كان يتبنّى أيديولوجية تزعم بناء الاشتراكية فى عموم المعمورة، ويتبنّى وينفذ سياسات معادية للاستعمار ومناصرة لحركات التحرُّر فى العالم أجمع. أما الآن فإن الاتحاد الروسى أيديولوجياً وسياسياً ليس إلا نسخة، ربما مشوهة، بتفاقم التفاوت الطبقى وتفشى الفساد والجريمة المنظمة، خصوصاً إبان حقبة التحوّل إلى الاقتصاد الرأسمالى، من الولايات المتحدة. ليس إلا دولة رأسمالية لا تخفى أطماعاً توسعية واستعمارية أحياناً، لا ننسى أفغانستان مثلاً.
ومصر أيضاً لم تعد الدولة الصاعدة الآخذة بأسباب النهوض والتقدّم، بقيادة زعيم تاريخى بلا منازع، ليس فقط لمصر، بل للأمة العربية جمعاء، وأحد زعماء قلائل مبرزين لحركة التحرر العالمية، كما كانت ممثلة فى حركة عدم الانحياز، حينئذ.
يتناول المقال أولاً جذور التفكير الاستراتيجى فى الموضوع، اهتداءً بفكر الراحل العظيم جمال حمدان، ثم ينتقل إلى مناقشة طبيعة العلاقة بين طرفين متفاوتين فى القوة وانعكاسها فى مجال التبادل الاقتصادى، ويختتم بتقييم لاحتمالات حصول جيش مصر على السلاح المتقدم من الاتحاد الروسى وجدواه لغاية ضمان الاستقلال الوطنى.
(1) السياق الاستراتيجى لعلاقة مصر والاتحاد الروسى يعتمد هذا الجزء من المقال على الكتاب القيّم للراحل العظيم جمال حمدان: استراتيجية الاستعمار والتحرير (دار الشروق، 1983) وفيما يلى مقتطفات شبه حرفية من السفر الرائع، والذى ما زال تحليله معاصراً على الرغم من مرور ثلاثة عقود على نشره. ومن أسف أن هذا الكتاب القيّم لم يحظ بالذيوع والقراءة المُستحقين، خصوصاً فى دوائر صنع السياسة فى مصر.
تتسم روسيا بصفة أساسية بلا شك بـ«القارية»، القارية المطلقة. فهى أولاً رقعة واحدة متصلة سحيقة الأبعاد من اليابس، بل لعل العالم لم يعرف فى تاريخه دولة أو إمبراطورية برية متصلة فى مثل هذا الحجم، إلا أن تكون إمبراطورية جينكيز خان.
وهى أطول الدول حدوداً، سواء برية أو بحرية، نحو 38 ألف ميل، أى مثل محيط الكرة الأرضية مرة ونصف المرة. ومع ذلك فلم يكن هناك دولة معزولة بالطبيعة وحبيسة عن عالم المعمورة كروسيا. فهى وإن بدت ساحلية شكلاً، تعد قارية موضوعاً. فشمالاً ثمة المحيط المتجمد، وجنوباً نطاق عميق من الصحارى والمرتفعات الصارمة، وشرقاً فراغ المحيط الهادى الهائل وأضخم صحراء على وجه الأرض. إنها -نكاد نقول- رهينة المحبسين، صحراء الجليد وصحراء الرمل، وهذان بالفعل هما المؤشران اللذان يكونان معاً بوصلة السياسة الروسية أو حجر المغناطيس فى سياستها. وقد بدأ التوجُّه إلى البحار الدافئة منذ بطرس الأكبر -القيصر الخامس لروسيا فى القرن الثامن عشر- بالتحديد أو بالتفصيل. وبعده يمكن تفسير كل السياسة الخارجية برغبة الدب الروسى فى «المياه الدافئة».
ولهذا فقد تركز ضغط السياسة القيصرية فى الغرب على ضلوعه الأوروبية. ففى البلطيق بدأ بطرس الأكبر «بنافذة روسيا على أوروبا»، حين خلق سان بطرسبرج (لينينجراد) من لا شىء. ثم كانت أوكرانيا أرض صراع مزمن.
ويمتد شوق الدب الروسى إلى المياه الدافئة طبيعياً إلى البحرين المتوسط والأحمر وحتى إلى الخليج العربى الذى قال فيه بطرس الأكبر مقولته التنبُّؤية الشهيرة «من يسيطر على الخليج، يسيطر على العالم». وهكذا بدأت روسيا تتطلع إلى هذه البحار بعد توسُّعها الجنوبى فى القوقاز ووسط آسيا منذ منتصف القرن التاسع عشر.
ولا ننسى أن القاعدة البحرية الروسية فى ميناء طرطوس السورى كانت هى سر الدعم غير المشروط للطاغية بشار الأسد، وقد فقدتها روسيا أو كادت، وبحاجة لأن تعوضها.
يبقى أن نتناول رؤية «حمدان» للصراع بين الدولتين الكبيرتين، الولايات المتحدة والاتحاد الروسى. عنده أن قصة الصراع بين العملاقين والمعسكرين تتلخص فى التحليل الأخير فى أنها بدأت صراعاً أيديولوجياً، أى بين الاشتراكية والرأسمالية. فتحوّلت فى ظل وتحت ضغط العصر النووى إلى صراع بين الأيديولوجيا والتكنولوجيا، أى على الترتيب بين المذاهب السياسية والأسلحة النووية. فانتهت أخيراً بتغلب الأخيرة على الأولى، خشية الانتحار النووى المتبادل. وهذا إن دل على شىء فإنما يدل على أن التكنولوجيا (النووية) أثبتت أنها أقوى عملياً من الأيديولوجيا (المذهبية) فأرغمتها على التقارب والاتجاه نحو حل وسط تاريخى. وهكذا، حصلت النقلة الاستراتيجية من الحرب الباردة إلى الوفاق.
وقد عجّل انهيار الاتحاد السوفيتى المروّع من إلحاق الاتحاد الروسى بمعسكر الغرب مذهبياً ومجتمعياً.
فى النهاية، مذهبياً ومجتمعياً، أصبحت روسيا نسخة (ربما ممسوخة) من الولايات المتحدة.
وأخيراً، لا مناص من وضع المشروع الصهيونى فى المنطقة العربية فى هذه الصورة الاستراتيجية حتى تتكامل. يعتبر جمال حمدان الصهيونية أعلى مراحل الإمبريالية والاستعمار. ويقرر أن مصير إسرائيل الصهيونية سيُحدّد فى نهاية المطاف مصير الإمبريالية العالمية. فما دامت إسرائيل باقية فإن الإمبريالية ستظل مقيمة لا تريم فى العالم الثالث. ولكن يوم تذهب إسرائيل، فسوف تكون تلك بداية النهاية المطلقة للإمبريالية.