لا يبدو أن الولايات المتحدة حسمت أمرها حيال النظام الجديد فى مصر حتى هذه اللحظة، رغم الكثير من الإشارات التى تؤكد أن هذا النظام يحظى بدعم شعبى ومؤسساتى واضح، وأنه أتى ليستقر ويستديم، والأهم من ذلك أنه قادر على فرض الأمن داخلياً، وعلى المساعدة فى صيانته فى الإطار الإقليمى.
يعتقد كثيرون من المهتمين بتحليل السياسات الأمريكية حيال منطقة الشرق الأوسط، أن ثمة أجنحة عديدة فى واشنطن تمتلك وجهات نظر متباينة ومصالح مختلفة وقدرات تأثير متفاوتة فى القرار الرسمى، وأنه كثيراً ما يظهر التضارب والارتباك فى السياسات الأمريكية كنتيجة لاختلاف الرؤى بين تلك الأجنحة وتصادمها أحياناً.
لكن آخرين يرون أن واشنطن حسمت أمرها حيال النظام الجديد فى مصر، واختارت التعاون معه، لكنها تعتزم إبقاءه دائماً تحت ضغط من جهة، كما تريد أن تحتفظ بأوراق مع تنظيم «الإخوان»، بما يمكنها من العودة لاستخدامها مجدداً إذا دعت الحاجة، من جهة أخرى.. وهو الأمر الذى يبدو أكثر منطقية.
وأياً ما كانت الأسباب وراء ارتباك واشنطن أو تذبذبها فى التعامل مع النظام الجديد فى مصر، الذى بُنى على أنقاض حليفها الأثير (تنظيم الإخوان)، فإن هذا الأمر ينعكس فى سياسات سلبية واضحة تجاه الدولة المصرية.
تتضمن تلك السياسات اتهاماً لمصر بضرب ليبيا والعودة عنه، أو تحريضاً لوسائل إعلام ومنظمات مجتمع مدنى على استهداف الدولة المصرية وتقوية مواقف «الإخوان»، أو تقليصاً للمساعدات، وتعويقاً لخطط التدريبات المشتركة وصادرات الأسلحة وصيانة المعدات، فضلاً بالطبع عن الانتقادات المسيئة عبر التصريحات الرسمية. سيزعج هذا السلوك عشرات الملايين من المصريين الذين منحوا ثقتهم للسيسى، وسيذكر القاهرة بأجواء العناد التى لمستها من «الصديق» الأمريكى على مدى العام الماضى، منذ تمت إطاحة حكم «الإخوان» عبر انتفاضة شعبية ضخمة، لم يجد الجيش سبيلاً لتجاهل مطالبها.
لا تريد واشنطن التوقف عن إرباك الأوضاع لدينا؛ سواء بسبب تضارب رؤية مراكز القرار فيها حيال الحالة المصرية، أو بسبب رغبتها فى إبقاء الضغوط قوية على النظام والفرص متاحة أمام الحليف «الإخوانى» للعودة إلى الساحة.
إن واشنطن تخسر خسارة استراتيجية بسبب سلوك العناد حيال القاهرة، وسوف تعانى كثيراً لإصلاح ما أفسدته هذه السياسة غير الذكية وغير النزيهة فى آن. على واشنطن أن تدرك مجموعة من الحقائق التى ظهرت واضحة على الأرض؛ ومنها مثلاً أن تقييمها للتطورات فى مصر لم يعد على نفس مستوى الأهمية السابق داخل البلاد وخارجها، وأن المصريين مثلاً باتوا أكثر اهتماماً بتطوير العلاقات مع روسيا، وأكثر تعويلاً عليها.
لقد بات القطاع الأغلب من المصريين يعتقد أن واشنطن لا تدعم القيم الديمقراطية كما تدعى، لأنها من وجهة نظر هذا القطاع دعمت فاشية «الإخوان» الدينية، وأنها لا تحفل بحقوق الأقليات، وخصوصاً المسيحيين، لأنها لم تنتفض ضد حرق كنائسهم واستهدافهم على أيدى «الإرهابيين»، وأنها تستخدم المعونة للضغط على مصر وتطويع سياساتها.. وأخيراً وليس آخراً.. أنها لا تهتم سوى بأمن إسرائيل.
ستجد واشنطن صعوبة بالغة فى إقناع المصريين بأنها تريد خفض المعونة حرصاً على قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان؛ لأنها قمعت احتجاجات «فيرجسون» بعنف رغم تضاؤل التهديد، وستجد صعوبة أكبر إذا حاولت إقناعهم بأنها حريصة على عدم ضرب ميليشيات ليبيا انتصاراً للسلم الدولى وحقوق المدنيين، لأنها لم توفر سلماً أو مدنياً حينما كانت المسألة تتصل بمصالحها.
كما ستجد صعوبة بالغة فى إعادة التمركز فى السياق المصرى مجدداً، أو استعادة الدفء إلى العلاقات الثنائية بين البلدين بسبب تدهور صورتها وتراجع الثقة فيها.
لقد نشأ فى مصر نظام قوى، يحظى بدعم شعبى واضح؛ وهو قادر على الاستدامة والتأثير فى محيطه، وستكون واشنطن خاسرة إن هى لم تقم علاقات جيدة ومتوازنة معه.