1- سابقة تاريخية تخزى البشرية
وقع الاجتياح التترى للعالم الإسلامى فى بداية النصف الثانى من القرن السابع الهجرى/ الثالث الميلادى، وسقطت حاضرته العتيدة بغداد سـنة 656 هـ/ 258 م.
ويذكر «ابن الأثير» أنه «لما نجح التتار فى دخول بغداد وقتلوا جميع من قدروا عليه من الرجال والنساء والولدان والمشايخ والكهول والشبان، دخل كثير من الناس فى الآبار وأماكن الحشوش، وكمنوا أياماً لا يظهرون، وكان الجماعة من الناس يجتمعون إلى الخانات ويغلقون عليهم الأبواب فيفتحها التتار إما بالكسر وإما بالنار، ثم يدخلون عليهم فيهربون منهم إلى أعالى الأمكنة فيقتلونهم بالأسطحة، حتى تجرى الميازيب من الدماء فى الأزقة، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وكذلك فى المساجد والجوامع». و«عادت بغداد بعدما كانت آنس المدن كلها كأنها خراب ليس فيها إلا القليل من الناس وهم فى خوف وجوع وذلة».
ويكمل «ابن الفوطى» أخبار «ابن الأثير» عن بغداد والعراق فيصف التدمير المغولى لحضارة بغداد فيقول: «وأحرق معظم البلد وجامع الخليفة وما يجاوره، واستولى الخراب على البلد، وكانت القتلى فى الدروب والأسواق كالتلول، ووقعت الأمطار عليهم ووطئتهم الخيول فاستحالت صورهم وصاروا عبرة لمن يرى، ثم نودى بالأمان فخرج من تخلف وقد تغيرت ألوانهم وذهلت عقولهم لما شاهدوا من الأهوال التى لا يعبر عنها بلسان، وهم كالموتى إذا خرجوا من القبور يوم النشور من الخوف والجوع والبرد، حتى «انطمست أمام هجمات المغول معالم الثقافة فى عاصمة الإسلام بغداد وانقلبت الديار التى احتوت القصور الفخمة وخزائن الكتب والمتاحف قاعاً صفصفاً وأفناء خاوية لا حياة فيها».
2- ما يسمى «داعش» يعيد السابقة المخزية بعد ثمانية قرون من تقدم البشرية
أقول «ما يسمى» لأنه كيان تحتار العقول السليمة فى فهم كنهه، فهو يبدو وكأنه آت من خارج التاريخ، بالتأكيد من خارج تاريخ المدنية والإنسانية، يتفوق على التتار فى الهمجية، ويثير أسوأ الشبهات عن منشئه ومقاصده. ومن المدهش أن هذا التنظيم المشبوه يطلق على نفسه اسماً يتكون من الحروف الأولى من اسمه الكامل: «الدولة الإسلامية فى العراق والشام» وهو تقليد لغوى غريب عن اللغة العربية وإن كان سائداً فى الثقافة الغربية، ما قد يعد قرينة على منشئه.
أما أفعاله النكراء التى تتفوق فى الهمجية على التتار فى غزوهم المحتقر عبر التاريخ لبغداد، فقد شملت هدم المساجد والمزارات الدينية الأثرية، وصلب وقتل المغضوب عليهم بلا محاكمات عادلة -وفى حالة بالغة البشاعة قتلوا صبياً سورياً بعد أن أعلن إسلامه متحولاً عن المسيحية- وإلزام المسيحيين بدفع الجزية أو تشريدهم من ديارهم وقراهم وسبى النساء وبيعهن كالجوارى، ودفن الأطفال والنساء والشيوخ أحياء.
ولعل الهجمة التترية الأولى لم تكن مُفارقة جذرياً مع تقاليد الغزو البشعة فى عصرها، إلا أن المدهش أن ما يسمى «داعش» يضرب المنطقة العربية كإعصار مدمر بعد مرور ثمانية قرون طوال، استكملت فيها البشرية منظومة متكاملة من حقوق الإنسان، خصوصاً القانون الدولى الإنسانى الذى يحكم تصرفات الأطراف المتحاربة فى الحروب لحفظ قيم المدنية والإنسانية.
المدهش حقاً أن يجد مثل هذا الكيان الهمجى الباغى من يؤيدونه، من غلاة الوهابيين، بدعوى نصرة الإسلام، وقويم الإسلام منهم براء.
ما يعنينى فى الأساس فى هذا الموضوع هو الإساءات البالغة للمسيحيين، إخوتنا فى الدين والأوطان، التى ارتكبتها هذه القطعان الغوغائية فى سوريا والعراق. نعم المسيحيون هم إخوتنا فى الوطن لا مراء، ولكنهم أيضاً إخوتنا فى الدين، إذ كما يعلم من يفقهون قويم الإسلام، فالدين الإلهى واحد وإن اختلفت الشرائع، بين يهودية ومسيحية وإسلام. ومن ثم، فإن ما يأفكون ليس إلا إساءات بالغة لصحيح الإسلام لو كانوا يعرفونه، ليس إلا معاصى يرتكبونها فى حكم صحيح الإسلام والسنة النبوية. والشك غلاب فى أن الصهيونية تحركهم، أو على الأقل هم يخدمون مشروعها لتفتيت أوطاننا العربية وتطهيرها عقدياً لتكريس نموذج الدولة «النقية» دينياً تمجيداً لمثل إسرائيل العنصرية الغاصبة التى تريد أن تكون خالصة لليهود.
ومع ذلك، أهدى لهم، «داعش ومناصريها» -إن كان لهم عقول بها يفقهون- وثيقة الأمان (العهدة المحمدية) التى عقدها خاتم المرسلين وكتبها على بن أبى طالب وشهد عليها صحابة الرسول، المحفوظة فى دير سانت كاترين، ونصها كالآتى:
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا كتاب كتبه محمد بن عبدالله إلى كافة الناس أجمعين بشيراً ونذيراً ومؤتمناً على وديعة الله فى خلقه لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزاً حكيماً، كتبه لأهل ملته ولجميع من ينتحل دين النصرانية من مشارق الأرض ومغاربها، قريبها وبعيدها، فصيحها وعجميها، معروفها ومجهولها، كتاباً جعله لهم عهداً فمن نكث العهد الذى فيه وخالفه إلى غيره وتعدى ما أمره كان لعهد الله ناكثاً، ولميثاقه ناقضاً، وبدينه مستهزئاً، وللّعنة مستوجباً سلطاناً كان أو غيره من المسلمين المؤمنين:
- لا يغير أسقف من أسقفيته ولا راهب من رهبانيته ولا حبيس من صومعته ولا سايح من سياحته ولا يهدم بيت من بيوت كنائسهم وبيعهم ولا يدخل شىء من بناء كنائسهم فى بناء مسجد ولا فى منازل المسلمين، فمن فعل شيئاً من ذلك فقد نكث عهد الله وخالف رسوله ولا يحمل على الرهبان والأساقفة ولا من يتعبد جزيةً ولا غرامة وأنا أحفظ ذمتهم أين ما كانوا من بر أو بحر فى المشرق والمغرب والشمال والجنوب وهم فى ذمتى وميثاقى وأمانى من كل مكروه.
- ولا يُجادلوا إلاّ بالتى هى أحسن ويخفض لهم جناح الرحمة ويكف عنهم أذى المكروه حيثما كانوا وحيث ما حلوا.
- ويُعاونون على مرمّة بيعهم وصوامعهم ويكون ذلك معونة لهم على دينهم وفعالهم بالعهد.
وقد كتب على بن أبى طالب هذا العهد بخطه فى مسجد النبى وشهد بهذا العهد صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.