عاشت أوروبا فى قرون العصور الوسطى، فى بؤس وجهل شديدين تحت نير تجبر رجال الدين الذين كانوا يتمتعون بصلاحيات شبه إلهية، وكانوا يدعون معرفتهم بخفايا القلوب وقدرتهم على تمييز صحيحى الإيمان من «المهرطقين». والهرطقة هى كلمة اكتسبت معناها الدارج من كتاب «ضد الهرطقات» أو «Contra Haerese» لمؤلفه إرنايوس «Irenaeus»، والذى فند فيه آراء مناوئيه، ووصفهم فيه بأنهم خارجون على «صحيح الدين» (الذى يمثله الكاتب بالطبع) واعتبر أن كل رأى واجتهاد يخالف ما يؤمن به هو كفر بالعقيدة، وشملت «الهرطقات والبدع» كل فنون وفلسفات وعلوم الحضارتين الإغريقية والرومانية التى ازدهرت قبل ظهور المسيحية، على اعتبار أنها «كفر وزندقة»، حتى وصل الأمر إلى أن إنشاء ما يعرف بـ«محاكم التفتيش» التى كانت مهمتها (المقدسة) هى التفتيش فى قلوب الرعايا عن كل شائبة قد تشوب الإيمان الصحيح وانتزاعها من قلوب أصحابها انتزاعاً، سواء كان ذلك بالاستتابة، أو بالتعذيب الذى أبدع القائمون عليه فى ابتكار الآلات المذهلة التى هدفها إحداث آلام مذهلة «لتطهير قلوب المهرطقين من آثامها»، أو بحرق أشاوس المهرطقين أحياء!. لم يسلم أحد من شرور تلك المحاكم، بل اكتوى العديد من رجال الدين أنفسهم بنيران المحارق لمجرد أنهم تساءلوا عن جدوى وإنسانية تلك المحاكم. ظل ذلك الحال المأساوى فى أوروبا يسير من سيئ إلى أسوأ، حتى ضاق الأوروبيون ذرعاً بتعنت رجال الدين وتجبرهم على مقدرات حياتهم، فظهر الكثير من المفكرين المستنيرين الذين نادوا باستعادة الأمجاد القديمة لقارتهم عبر استلهام آداب وعلوم وفنون وفلسفة جدودهم الإغريق والرومان وإعادة إعلاء قيمة العقل والمنطق، وتمكنوا عن طريق الموسيقى والفلسفة والعلوم من إحياء جذوة أهم عصور أوروبا: عصر النهضة.
ما أشبه ليلتنا ببارحتهم! فقد وصل شطط وشرور مهاويس التطرف الدينى فى بلادنا حداً فاق فيه كل مقبول، وتخطى كل ما هو إنسانى، نُبِذ فيه العقل والمنطق والرحمة بشكل لم يسبق له مثيل، وصار الجهلاء المتمسحون بعباءة الدين آمرين ناهين فى العباد، يستخدمون الدين مطية لتبرير أحط وأشنع الأفعال التى كان ليتبرأ منها رجال الكهف وإنسان كرومانيون! من وصم كل المخالفين لهم بالكفر، إلى التهجير القسرى لكل أصحاب الديانات المخالفة، وصولاً إلى تقطيع الرقاب والتمثيل بجثثهم، بل بالتقاط الصور التذكارية وهم يلعبون الكرة برؤوس ضحاياهم!
هل داعش وأمثالها، هم القشة التى ستقصم ظهر البعير؟ هل هم الساعة الأخيرة من الليل التى دائماً ما تكون أشد الساعات إظلاماً قبل بزوغ الفجر؟ هل يقدر لنا الله ونحن فى قرننا الخامس عشر الهجرى أن نلفظ من حياتنا ما لفظه الأوروبيون فى قرنهم الخامس عشر؟ إنى على ثقة بأن الأفعال التى يأتيها هؤلاء الوحوش الآدمية سوف تدفع مجتمعاتنا دفعاً لإعادة إعلاء قيمة العقل والمنطق والتفكير العلمى والفنون والفلسفة لإعادة استلهام حضاراتنا العربية والفرعونية والآشورية والفينيقية وغيرها، إيذاناً ببدء عصر النهضة العربى الذى طال انتظاره.