قرية «أبوطويلة».. حياة تحت حصار الجيش والتكفيريين
وفاة والد «بدوى» وسيدة «حامل» لرفض «الإسعاف» دخول القرية ليلاً
سيارة المياه لا تصل والخدمات معدومة: لا طرق ولا أسواق ولا وحدات صحية
مرشدو التكفيريين والجيش فى كل مكان: إذا نجوت من رصاص الإرهابيين وقعت فى يد الأمن
أصوات طلقات النار تتصاعد على بعد 400 متر حيث يستقر كمين أبوطويلة الأمنى، بالتزامن مع آهات رجل عجوز يعانى المرض فى أحد منازل القرية، وفى ساعة ليست متأخرة من الليل، يظل كل من فى البيت على غير العادة يقظين، ليس بسبب أصوات الطلقات التى يطلقها الكمين والتى اعتادوا عليها، ولكن هذه المرة يرقد أبوهم؛ يتأوه من شدة الألم والمرض، يستنجد بأولاده من حوله، يقفون مكتوفى الأيدى، يتبادلون نظرات الشفقة فيما بينهم، يدركون أن المعاناة لن تنتهى بسرعة مع أبيهم.
«الخروج بمثابة انتحار فى ظل وجود كمين أبوطويلة على مدخل قريتهم»، حقيقة يعلمها جميع من فى البيت بمن فيهم أبوهم الذى يصارع المرض على فراشه، يقرر أكبرهم التجربة، يتصل بالإسعاف فكانت الإجابة تقليدية وقاسية: «آسفين فيه حظر تجول والكمين مانع أى حد يدخل القرية عندكو، واللى بيقرب من الكمين بيضِّرب عليه نار»، كلمات لم تنل من عزيمة الابن الأكبر، فيقرر الاتصال بأحد الضباط الموجودين بالكمين لعله يسمح بدخول إسعاف أو خروج سيارة تحمل أبيهم إلى المستشفى التى لا تبعد أكثر من 5 كيلومترات من القرية، يبدى الضابط تعاطفه مع الأسرة لكنه يؤكد فى الوقت نفسه عدم قدرته على مساعدتهم كما ينبغى، فكل ما يستطيع فعله هو السماح لهم بالخروج من الكمين، لكنه غير مسئول إذا قام أحد أفراد الكمين المجاور، «كمين الضرائب» الذى لا يبعد أكثر من كيلو عن كمين «أبو طويلة»، بإطلاق الرصاص عليهم أو استهدافهم، يدرك حينها الابن نتيجة مجازفته إذا خرج بوالده من كمين أبوطويلة، وهى الموت، وربما اتهامهم بعد مقتلهم بمحاولة الاعتداء على قوات الأمن بالكمين.
يصاب الجميع بخيبة أمل متوقعة، ويرجع الجميع إلى موقعهم من سرير أبيهم، لا يستطيعون مساعدته بأكثر من نظرات شفقة ودعوات بالشفاء، يبدو على وجه أبيهم الاستسلام إلى قدر محتوم، كان من الممكن أن يتغير لو لم يكن هناك «كمين» على بوابة قريتهم، يتبادل أفراد الأسرة نظرات الوداع مع أبيهم، لتصعد روحه إلى بارئها بعد معاناة مع الألم والمرض و«كمين أبوطويلة»!
كمين أبوطويلة حديث العهد بالنسبة لأهالى القرية، فلم يعرفوه إلا فى عهد الرئيس المعزول محمد مرسى، وكان قبل ذلك نقطة تحصيل رسوم من السيارات «كارتة»، ولكن بعد قيام ثورة يناير وما تبعها من أحداث عنف وإرهاب شهدتها شمال سيناء، شعر أهالى قرية أبوطويلة بضرورة وجود كمين على مدخل قريتهم ليحميهم، تواصلوا مع المستشار العسكرى فى سيناء فى ذلك الوقت، وطلبوا منه إنشاء كمين عند مدخل القرية ليحميهم من البلطجة والإرهاب الذى بدأ يغزو صحراءهم، وافق الجيش على الفور وقام بإنشاء الكمين فى عهد محمد مرسى.
«ندمنا إننا طلبنا من الجيش عمل كمين عند قريتنا، ماكناش نعرف إنه هيتحول من حماية لينا لسجن، ويحول قريتنا لأشبه بمنطقة عسكرية».. كلمات يظهر أثرها على وجه أحد سكان القرية «ف. غ» من قبيلة الريشات، والابن الذى مات أبيه بسبب عدم وصول سيارة إسعاف لتنقذه، والذى رفض ذكر اسمه خوفاً من ملاحقة التكفيريين أو الأمن له: «إحنا واقفين فى النص بين التكفيريين والجيش، وممكن يكون بينَّا واحد خاين مانعرفوش وماعندوش مشكلة يضحى بينا بمجرد معرفته إننا تعاونَّا مع الجيش»، ويضيف لـ«الوطن»: «أنا مولود فى القرية دى وموجود فيها قبل وجود الكمين بعشرات السنين، فى البداية العلاقة كانت ودية بين أهالى القرية وأفراد الكمين، وكنا بنفطرهم معانا فى رمضان، كان كل يوم عيلة من القرية بتعملهم فطار، ولكن بعد 30 يونيو وعزل مرسى الكمين بقى بيتهاجم باستمرار ويشتبك مع المسلحين بشكل يومى، الأمر اللى اترتب عليه رفع حالة الطوارئ وتغيير الطاقم اللى كان بينا وبينه علاقات طيبة، وامتنع الطقم الجديد عن التعامل معنا والتقرب منا».
يفرض الكمين على أهالى القرية حصاراً يبدأ من الساعة الرابعة عصراً وحتى صباح اليوم التالى، وهو موعد حظر التجول المفروض على الطرق الرئيسية فى شمال سيناء، ويمنع الكمين سكان القرية من الصعود فوق أسطح المنازل أو حتى الوقوف فى شرفات أو «بلكونات» البيوت، ومن يفعل ذلك فالنتيجة محتومة لا جدال فيها، وهى تعرضه لوابل من الرصاصات من قبل القناصة التابعة لقوة الكمين.
يروى «ف. غ» قصة تعرض لها أثناء إطلاق الكمين الطلقات بشكل عشوائى ناحية القرية فيقول: «سمعنا فجأة ضرب نار بطريقة قوية جداً من غير ما نعرف السبب للتصرف ده، وفجأة شفنا عربية (كروز) دفع رباعى بتضرب نار على الكمين من ورا القرية، فبقينا فى النص بين المسلحين ورجال الأمن، وكان صوت ضرب الرصاص فوق البيوت قوى جداً بطريقة خليتنى خايف أرفع راسى من على السرير وأولادى كانوا مرعوبين جداً».
الخدمات فى القرية تكاد تكون معدومة، فلا طرق ممهدة ولا أسواق ولا وحدات صحية، والمدارس بلا مدرسين، بالإضافة إلى عدم وجود مياه صالحة للشرب، حيث يضطر الأهالى لشراء مياه الشرب من المحافظة، ولكن بسبب الكمين فى كثير من الأحيان لا تصل السيارة بالمياه إلى القرية؛ «بقالنا عشر أيام ماشفناش عربية الميه فى القرية»، كما أن شبكات الاتصالات لا وجود لها أغلب ساعات اليوم فى القرية. يتذكر «ف. غ» موقفاً آخر تعرض له جاره من قبل أفراد الكمين: «واحد جارنا كان عنده عشة فيها خرفان، واحد منها خرج ووقف قصاد الكمين فى ساعة من الليل، وبمجرد أن رآه أفراد الكمين أطلقوا النار عليه بشكل عشوائى».
يمنع الكمين مرور السيارات على مسافة كيلومتر من ناحية مدينة العريش طول ساعات اليوم، ولا يسمح إلا بمرور المدرعات والدبابات التابعة للجيش فقط، وبمجرد المرور من كمين الضرائب الذى يبعد كيلومتراً عن كمين أبوطويلة، يتعين على سائق السيارة أن يتجه إلى اليمين حيث المدخل الوحيد للقرية، وهو طريق مدقات، كان قديماً الطريق الرسمى للمهربين وتجار السلاح والمخدرات، ولكن بسبب الكمين أصبح المنفذ الرسمى لقرية أبوطويلة؛ «عشان أروح الشغل باضطر كل يوم أمشى بالعربية فى طريق موازٍ للطريق الدولى، بعيد عن الكمين بمسافة 5 كيلومترات، وهو عبارة عن مدقات، وكان طريق بيمشى فيه تجار السلاح والحشيش عشان يهربوا من الكمين، لكن للأسف دلوقت بقى الطريق الرسمى لينا والمدخل الوحيد لقريتنا، وفيه سواقين ماتعرفش الطريق كويس وماتعرفش إن الكمين قافل الطريق بالمنظر ده، وبيعدوا بحسن نية على الطريق الدولى تجاه الكمين، وبمجرد ما القناصة بيشوفوهم بيضربوا عليهم نار حى، وكتير من السواقين ماتوا بسبب الموضوع ده».
يعمل «ف. غ» فى إحدى المصالح الحكومية بمدينة العريش، يحاول أن يتذكر أول مرة تعرض فيها الكمين لإطلاق نار ومهاجمة من قبل التكفيريين فيقول: «أول مرة تمت مهاجمة الكمين كان فى رمضان اللى فات وقت الإفطار، وكان ضرب النار بطريقة مبالغة، والأهالى من الخوف ماكملتش فطار، لكن مع مرور الوقت أصبحنا خبرة فى التعامل مع ضرب النار، وبقينا نميز ونتعرف على الأسلحة من أصوات الأعيرة النارية أكثر من خبراء الأسلحة».
العلاقة الودية بين أفراد الكمين فى الوقت الحالى غير الوقت السابق، كما يرى «ف. غ»، فأيام المعزول «مرسى» كان الأهالى يعرفون أفراد الكمين بأسمائهم وكانوا يقدمون لهم الطعام ويعدون لهم وجبات الأكل، ولكن بعد ثورة 30 يونيو انقلب الوضع وأصبح الأهالى يخشون من التعامل مع أفراد الكمين خوفاً من ملاحقة التكفيريين لهم، وفى الوقت نفسه أصبح أفراد الكمين لا يحتكون بالأهالى حتى لا تنشأ بينهم علاقات صداقة، كما أن القرية بها مرشدون تابعون للجيش والكمين، كذلك هناك مرشدون للتكفيريين ولكنهم غير معروفين لأبناء القرية.
فى إحدى ساعات الليل، القرية فى هدوء تقطعه أصوات عنيفة لطلقات الرصاص بين وقت لآخر من كمين أبوطويلة، وعلى بعد 150 متراً من الكمين يطرق أحدهم باب أحد منازل القرية بقوة، يخرج صاحب المنزل «أ. هـ» فيجد جاره وقد ظهرت عليه ملامح الخوف والهلع، وبكلمات متحشرجة: «مراتى شكلها بتولد ومش عارف أتصرف»، يسارع «أ. هـ» خلف جاره، أول ما يخطر فى باله هو طلب الإسعاف، وبالرغم من معرفته بالنتيجة سابقاً فإنه يقرر المحاولة، يأتيه الصوت من الطرف الآخر للهاتف: «مش هينفع نبعت عربية إسعاف، الدنيا ليل وفيه حظر تجول، والكمين هيضرب نار علينا»، يصيبه الهم، تأتى إحدى السيدات ذات الخبرة بأمور الولادة، لتؤكد استحالة الولادة بالطريقة الطبيعية ولابد من إجراء عملية عاجلة، يجد الزوج والجار أنفسهم عاجزين عن تقديم المساعدة، يحبسون أنفاسهم فى صمت، ليشاهدوا الأنفاس الأخيرة لعناء سيدة لا ذنب لها إلا أنها تسكن جوار أحد الكمائن الأمنية، تلفظ أنفاسها الأخيرة، وتسقط ضحية مع جنينها لحصار كمين أبوطويلة.
«الكمين حصن نفسه ونسى يحصن الأهالى ويعرف إذا كانوا متضررين من وضعه أم لا»، كلمات يحاول بها «أ. هـ» أن يصف وضع الكمين فى المنطقة، ويضيف: «كان عندنا فى القرية الشباب بتطلع تلعب كورة بعد صلاة التراويح، وكانوا بيصدروا أصوات نتيجة اللعب والمشاحنات اللى بتحصل بينهم، الأمر ده أزعج الكمين وقام بإطلاق النار تجاههم عشان يوقفوا اللعب، وبالفعل من ساعتها والشباب مش بيلعبوا كورة فى القرية، وكان واحد جارنا عنده جمل، وكان رابطه بطريقة يمكن للكمين إنه يشوفه بوضوح، وأثناء الليل اشتبه الكمين فى الجمل فضرب عليه نار بطريقة هستيرية».
ملف خاص
جيران كمائن سيناء: الموت من «باب الاحتياط»
كمائن سيناء
أحياء وقرى لا أحد يضل الطريق إليها، ما دامت قدماه تخطوان على أرض شمال سيناء؛ بمثابة «مَرسى إجبارى» لكل العابرين إلى المدن السيناوية... للمزيد
حى المزرعة.. قذائف الموت تمر فوق رؤوس الأهالى
آثار طلقات نارية على سور مدرسة بجوار كمين المزرعة
ينظر فى ساعته، مدركاً أن موعد خروج طفلته من المدرسة قد حان.. تسرى القشعريرة فى جسده ويدب الذعر فى أوصاله، حينما يطرق مسامعه بلا استئذان دوى طلقات متتابعة... للمزيد
«الريسة».. الليل نهار بـ«أضواء القنابل الكاشفة»
كمين الريسة
وسط أحد دروب الصحراء وعلى بعد كيلو واحد من كمين الريسة، جنوب مدينة العريش، يقف الشيخ سليمان العنازين برفقة زوجته وولديه الصغيرين «يحيى» و«يونس»... للمزيد