إذا ما أحسنت الدولة تنظيم عمل المجتمع المدنى أو الأهلى (الجمعيات الخيرية والنقابات والنوادى.. إلخ)، دون هيمنة ودون تسيب، فإنها سوف تفسح المجال لهذا القطاع للقيام بواجباته فى مشاركتها على أفضل صورة فى عملية التنمية، خاصة إذا ارتقى أعضاء هذا المجتمع إلى درجة أعلى من الوعى والنزاهة والشعور بالمسئولية، وعملوا بإيجابية فى إطار منظومة قانونية عادلة.
وفى هذه الحالة سوف يمكن للمجتمع المدنى أن يقدم للوطن إضافات حقيقية لحل مشكلاته المزمنة، ومن أهمها مشكلة «رأس المال البشرى» HUMAN CAPITAL الذى يمثل مجموع الأفراد المتعلمين وذوى الصحة والمؤهلين للعمل بانضباط، أى الذين يمثلون موارد بشرية حقيقية لأى عملية إنتاج. و«رأس المال البشرى» له مكونات كثيرة، أريد التوقف اليوم عند جزء منها وهو الأخلاق الاجتماعية التى انهارت فى الشارع والحارة ومنابر التواصل الاجتماعى.
فالمجتمع المدنى الفعال يؤدى خدمة كبيرة إلى الوطن؛ لأنه سوف يسهم -كما يقول ديفيد جرين فى كتابه (إعادة اختراع المجتمع المدنى)- فى «إيجاد الشخص الصالح، والأمانة، والشعور بالواجب، وبذل الذات، والشرف، والخدمة، والالتزام، والتحمل، والتسامح، والاحترام، والعدل، والشجاعة، والنزاهة، وبذل الجهد، والوطنية، واحترام الآخرين، والتوفير، وتقدير الآخرين».
وهذا المواطن الصالح هو الذى تحتاجه مصر الآن، وبدونه ستظل فى هذه الدائرة الجهنمية من توقف عجلة الإنتاج والسيولة العامة فى الشارع والعمل والبيت وعلى شاشات السينما والفضائيات.
ولا شك أننا بحاجة إلى «إعادة إنتاج الشخصية المصرية» التى طرأت عليها تحولات سلبية نتيجة وجود انقطاع حاد مع شخصية المصرى التاريخية، تلك الشخصية التى تشكلت فى وعينا على أن المصرى هو ذلك الشخص الشهم الجدع الإيجابى الذى يلتزم بالأصول ويحترم الكبير ويرحم الصغير ويصون عن أهله وجيرانه وبنى وطنه. وهو فى الوقت نفسه يعرف متى يتدخل للدفاع عن الأصول ومنع الخطأ، ومتى يقف عندما يتعلق الأمر بحرمة الحياة الخاصة واحترام الحريات الشخصية. وهذا الدور ليس معناه القيام بوظيفة الأمن الحكومى، ولكن معناه -كما أفهمه وعشته فى فترة سابقة من تاريخ مصر الاجتماعى- يتمثل فى شهامة ابن الشارع أو الحارة الذى يهبُّ لحماية بنات «حتته» أو «بلده» تجاه أى تجاوز، وهو الذى يدافع عن المظلوم وعن المعتدى عليه ويتصدى لأى لص أو معتد على أصول الحارة المصرية، حسب تقاليد الشهامة المصرية. وإذا كانت هذه الأمور صعبة الآن بسبب خوف التعرض لإصابة غادرة ممكن تودى بحياته، فالبديل موجود وهو سرعة الإبلاغ عن الحوادث التى تقع، وهذا الإبلاغ يدخل فى «الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر» من أوسع أبوابه.
وهنا لا بد أن تضع منظمات المجتمع المدنى أو الجمعيات الخيرية على أجندة أولوياتها النهوض للقيام بدور فعال فى التوعية الاجتماعية لاسترداد الأخلاق المصرية الأصيلة «أخلاق الشهامة والأصول والاحترام»، تلك الأخلاق التى يُسأل عن ضياعها مناهج التعليم والمدرسون، وتُسأل عنها السينما المصرية التى قدمت نماذج فجة وسطحية ولغة حوار متدنية، وتُسأل عنها الدراما التى أصبحت تقتات على لغة الجنس ومناخ الملاهى الليلية، حتى فى ليالى رمضان! ويسأل عنه المثقفون الذين تخلوا عن مهامهم بحثاً عن منحة أو سفرية.
واسترداد الأخلاق المصرية الأصيلة «أخلاق الشهامة والأصول والاحترام»، ليس دور مؤسسات المجتمع المدنى وحده، وإنما هو أيضاً دور أجهزة الحكومة المعنية: الإعلام، التعليم، الثقافة، الشباب والرياضة. وفى تصورى أن أكثر الوسائل تأثيراً فى استعادة التقاليد المصرية العريقة، هو مجال السينما والدراما والرياضة، طبعاً ليس بلغة الوعظ المباشرة والفجة، وإنما بطرق غير مباشرة، مثلما نرى فى بعض الأعمال الفنية مثل: «العار» و«يمهل ولا يهمل» و«جرى الوحوش» و«الأرض» و«ألف مبروك».. إلخ. ولا أبالغ إذا قلت إن «مدرسة المشاغبين» و«العيال كبرت» وكل الأعمال التى على شاكلتهما فى العقود الماضية قد ساهمت، مع عوامل أخرى، فى تصدع قيم الشخصية المصرية عند فئات عمرية عديدة، وليس هذا حكماً عاماً؛ فلا يزال هناك الحاملون للروح المصرية، لكنهم يتوارون شعوراً بالاغتراب فى زمن علا فيه صوت شراذم اجتماعية مهترئة.
إن العبء كبير على المجتمع المدنى؛ لأنه قريب جداً من الناس أو هكذا ينبغى أن يكون؛ فهو يربط بين أعضائه برباط اجتماعى ليس قائماً على القرابة أو الدم، أى ليس قائماً على أساس وراثى مثل العائلة أو القبيلة أو رابطة الدم، ولا على أساس العقيدة الدينية الواحدة؛ فـ«المجتمع المدنى» ليس هو المجتمع العام، بل هو أضيق نطاقاً منه، إنه ببساطة: النقابات، واتحادات العمال، والمؤسسات والهيئات والجمعيات الخيرية، والنوادى، ومجموعة المنظمات غير الحكومية، والغرف التجارية، والاتحادات المهنية مثل اتحاد الكتَّاب، واتحاد الناشرين، واتحاد أعضاء هيئة التدريس.. إلخ. والانضمام لكل هذه الكيانات طوعى من خلال الإرادة الحرة وليس انضماماً إجبارياً، ومن هنا فإن الكيان الذى ينضم له الشخص برغبته، يمكن له أن يتأثر به أكثر.
والمنتظر من كل هذه الكيانات، وأيضاً من الوزارة التى تنظم عملها، أن تضع خططاً قابلة للتنفيذ لمجموعة من البرامج والأنشطة التى تعمل من خلالها على «إعادة إنتاج الشخصية المصرية» كمتطلب ضرورى لعملية التنمية، وأن تشكل مجموعات ضغط ضد كل من يعمل على اهتراء الشخصية المصرية سواء فى الإعلام أو منابر الوعظ أو الثقافة أو الدراما أو التعليم أو الرياضة، وأن تقف وقفة منظمة ضد كل عمليات التفكيك التى تتعرض لها «الشخصية الوطنية» للمصريين.