إن الدور الذى لا يقل أهمية عن دور رجال الأعمال ودور الحكومة فى إعمال مبدأ المصالح المستنيرة، والابتعاد عن فلسفة المصالح الغبية التى تحرك الرأسمالية المتوحشة، للخروج بالوطن من هذا النفق الاقتصادى المظلم، هو دور «المجتمع المدنى» (المنظمات غير الهادفة للربح أو القطاع الأهلى). وهذا القطاع يحتاج إلى علاج ناجز حتى يخرج من الحالة المَرَضية المزمنة التى يعانى منها؛ حيث إنه ضل الطريق وانحرف عن دوره المجتمعى إلى أدوار سياسية ليست من اختصاصه ولا تدخل فى المقاصد التى أُنشئ من أجلها.
ومن أسف فإن المجتمع المدنى مر بمرحلة سيولة وفوضى فى السنوات التالية لثورة يناير وتعدى على دور الحكومة، ومن ثم تحول من النقيض إلى النقيض؛ فبعد أن كان عاجزاً ومستعبداً قبل تلك الثورة حيث الهيمنة الشاملة للحكومة عليه، انتقل إلى النقيض بعد الثورة فسيطر هو وأضعف دور الحكومة.
ومصر الآن بحاجة إلى علاقة جديدة تضبط المعادلة بين الطرفين، وتتجاوز الاعتقاد التقليدى الذى يؤمن به ويردده أهل اليسار بأن «الحكومة هى الحل»، وكذلك تتجاوز ما يقولـه الفوضويون وأهل اليمين الليبرالى الجذرى بأن «الحكومة هى العدو»، بل تجاوز ما يعتقده البسطاء والعامة من أن كل واجبات الإصلاح تقع على عاتق الحكومة بوصفها الأب والعائل!
ومن الخطأ الفادح ما ينادى به أهل اليسار التقليدى من ضرورة السيطرة الكاملة للدولة على المجتمع المدنى، والحق المطلق للدولة فى ممارسة نفوذها بكل مستوياته على الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، علاوة على خطأ الرأى القائل بسيطرة النزعة المؤسسية العامة فى إدارة المشاريع القومية.
وبالمثل فإن التصور النقيض عند التيار الليبرالى الجذرى مرفوض، وهو الذى يؤكد الاستقلالية التامة للمجتمع المدنى وعدم خضوعه لأى شكل من أشكال المراقبة من الحكومة، فدور الحكومة عند هذا التيار الواهم ينبغى أن يكون صغيراً ومحدوداً جداً. وهذا التصور فاشل كلية لأنه سيؤدى إلى فوضى وفساد، وقد جربناه (كرهاً لا طوعاً) فى السنوات الثلاث الماضية؛ فكانت النتيجة بالغة السوء.
وأتصور أن العلاقة المثلى للمجتمع المدنى مع الحكومة ليست فى إحكام هيمنة الحكومة على المجتمع المدنى، ولا فى إضعاف سلطة الحكومة وجعلها هشة، بل فى الشراكة بينهما فى إحداث تنمية حقيقية للمجتمع، بل وفى إحداث تغيير اجتماعى وفكرى يمثل الأرضية التى يمكن أن تتأسس عليها مصر الجديدة التى طال عليها الأمد فى عدم اللحاق بالدول الناهضة التى سبقتنا مع أننا أعمق منها فى التاريخ وأعظم منها فى الحضارة وأغنى منها فى الموارد البشرية.
وتتمثل الشراكة بين الحكومة والمجتمع المدنى، ليس فقط فى الجوانب المتقاطعة فى العمل، بل أيضاً فى الجوانب المنفصلة لأنها -وإن بدت كذلك- فإنها تكمل بعضها بعضاً، ويمكن أن نوضح فى هذا الصدد أى دور يمكن أن تقوم به الحكومة وأى دور يمكن أن يقوم به المجتمع المدنى سواء فيما هو مشترك أو فيما هو منفصل، بذكر بعض الأمثلة على هذا الدور وعلى بعض المهام التى تنتظر كلاً منهما.
ولعل أول هذه المهام التى تنتظر المجتمع المدنى مساعدة الحكومة فى المساهمة فى تقديم الخدمات العامة مثل النقل والتعليم، ورعاية الأيتام، والمعاقين، والمسنين، وتقديم الخدمات العلاجية، ومحو الأمية، وإيواء وتأهيل أطفال الشوارع.
وعلى المجتمع المدنى عبء كبير فى مجال البيئة خاصة، مثل أعمال النظافة فى المجتمع المحلى، والإبلاغ عن المصانع والورش الملوثة للبيئة، وزراعة المناطق المحيطة بالبيوت وأمامها، واستغلال المساحات الفارغة لعمل حدائق.. إلخ. وفى الوقت ذاته يجب أن ينشط المجتمع المدنى فى علاج الوعى البيئى الذى بلغ الحضيض عند أغلب المواطنين. فعمليات النظافة وحدها لا تكفى، بل لا بد من وعى بيئى ناضج وفعال.
وللدين دور كبير فى هذا الصدد؛ لأنه يشتمل على مُحفِّزات للفعل أكثر تأثيراً فى دفع الناس للعمل التطوعى، قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «إن قامت الساعة وفى يد أحدكم فسيلة فليغرسها» (رواه البزار، ورجاله أثبات ثقات. مجمع الزوائد، ج 4 /ص 63). والفسيلة هى النخلة الصغيرة تُقطع من الأم أو تقلع من الأرض فتُغرس، وتطلق على أى جزء من النبات يُفصل عنه ويُغرس. وقال النبى (صلى الله عليه وسلم): «إماطة الأذى عن الطريق صدقة» (رواه البخارى، باب 25 إماطة الأذى ، ج 2/ ص 871).
كما يجب على المجتمع المدنى مساعدة الحكومة فى مكافحة البطالة، من خلال تقديم القروض الحسنة، أى القروض بلا فوائد، لتشجيع المشروعات الاقتصادية الصغيرة. ويمكن له فى هذا الصدد توجيه أموال الزكاة والصدقات فى مساعدة الفقراء على القيام بهذه المشروعات، بدلاً من الطريقة التقليدية التى علمت الفقراء أن يكونوا عالة على المجتمع دون بذل أى جهد فى سبيل عمل شريف، وذلك على غرار «بنك الفقراء» فى بنجلاديش. وكذلك عمل دورات تدريبية لنقل وتنمية المهارات الإنتاجية التى تساعد على تهيئة العاطلين للعمل، أو تساعد الذين يرغبون فى تطوير أنفسهم وتحسين مستوى عملهم، أو تغيير مجاله.
وللحديث بقية إن شاء الله..