ماذا يكتب الإنسان عن جزء منه بل عن كلٍ. لست مجرد زوجة محبة وأم ثكلى لبنتيه الصغيرتين اللتين ما زالتا تحاولان فهم ما جرى، أنا أولاً وأخيراً عاشقة متيمة بعبدالله كمال، احتفظت بمشاعر العشق بيننا إلى آخر لحظة كنا عاشقين لحياتنا معاً بفرحها واختباراتها، بصعودها وكبواتها، ولآخر لحظة، وكانت اللحظة الأخيرة لا تقل عن سابقاتها سرعة وشجناً وغرابة وهدوءاً، كان حبيبى عائداً من سفرة استمرت عشرة أيام وصَلَ المنزل فجراً فسلم علينا ونحن بين الصحو والنوم، كأنه الحلم، احتضننا مطولاً ومودعاً، وتركنا نكمل نومنا استعداداً للغد، حيث كان موعد بروفة حفل الباليه النهائى لابنتينا، وبالفعل كان صباح اليوم التالى صباحاً ثقيلاً غريباً حاولت البنات إيقاظه، لكنه كان نائماً بعمق على غير العادة وانطلقنا وبعد ساعة تقريباً، أى حوالى الحادية عشرة من ظهر الجمعة اتصل بى حبيبى:
ريهام: صحيت حبيبى؟ عبدالله: آه الحمد لله، هتخلصوا إمتى؟! ريهام: بعد نص ساعة إن شاء الله، هتغدينا فين النهارده؟ عبدالله: زى ما تحبوا، لكن مال صوتك؟ ريهام: تعبانة جداً. عبدالله: ليه مالك، فيكى إيه؟ ريهام: حاسة أن روحى هتطلع، عندى هبوط شديد وقلبى واجعنى. عبدالله: خلاص تعالى البيت ارتاحى وبعدين نخرج. ريهام: أوك، نص ساعة ونخلص. وبعد نصف ساعة، اتصل حبيبى ولم أكن أعلم أنها آخر مرة أسمع فيها صوته، فلو علمت ما أغلقت الهاتف أبداً، وكانت مكالمته كالتالى:
عبدالله: وصلتوا فين؟ ريهام: خمس دقايق ونبقى عندك، هتنزل؟! ولا تستنانا؟!! عبدالله: هاستناكوا. ريهام: بجد؟! عبدالله: مش هانزل إلا لما تيجوا، ياللا أوام. ووصلنا وعند مدخل العمارة شممنا رائحة عطره المفضل بكثافة، فظننا أنه ذهب للكتابة ولم ينتظرنا، ولكن عندما صعدنا للشقة وجدناه ينتظرنا على كرسى قُرب الباب واضعاً قُربه موبايلاته وحقيبته وأدوات كتابته بقربه كان نائماً فى وضع الجلوس، وحرصنا على عدم إيقاظه، لينال قسطاً من الراحة، ريثما تبدل البنات ثياب الباليه، ولكن حدث أن أقلقنى عدم انتباهه لقدومنا مع أن نومه خفيف جداً، فاقتربت منه لأتفقده وناديت عليه بصوت منخفض لم يرد، فرفعت صوتى وناديت ولم يرد، خفت وناديت ولم يرد. وصرخت وبناتى باا باا ولم يرد، ليثبت فى ذاكرتنا مشهداً لن ننساه ما حيينا.
صدق حبيبى فقد انتظرنا كما وعدنا، وكان يضع أمامه هداياه الأخيرة صافاً إياها بالترتيب كعادته، فحبيبى يعشق الترتيب والنظام والأصول، وفى لحظة خيّم الحزن والألم على منزل كانت تملؤه السعادة والبهجه وكان لا يخلو من الأحباب والأصحاب؛ ليكتسى المنزل وأصحابه وضيوفه بسواد قاتم حزين، فتتحول الضحكات والاحتفالات إلى مأتم يغتال الروح وينهش الوجدان.
عرفت حبيبى منذ عام ٢٠٠٢ معرفة غريبة جداً وعرفته زوجة منذ ٢٠٠٦، أى منذ ثمانى سنوات تقريباً وبين المعرفة والزواج حدث الكثير والجميل بل الأرقى والأقيم. عندما كتبت يوماً على صفحة «الفيس بوك» الخاصة بى قبل وفاته بأشهر، إنى فهمته، فاحترمته، فأحببته، وقررت مكافأته بأن تزوجته. يومها ضحك أصدقائى وأقربائى، بل ضحك هو أيضاً وقال بتمدحى نفسك يا حلوة. ماشى يا مكافأتى!!! أما ما قصدته أنا بمكافأته فإنه التالى: كنت حالمة أبحث عن الكمال أو عن أقرب الصور له وتجسّد لى ذاك الكمال أن وجدت عبدالله كمال أو وجدنى هو. لا أدرى كيف اجتمعنا ولم يسع أحد منا إلى الآخر، جمعنا الله وكان زواجنا مكافأتنا معاً جائزة لكلينا، وكانت مكافأتى له بأنى كنت أطيعه أكثر مما أطعت والدى، وكنت أكثر صبراً عليه من صبرى على بناتى، وكنت أصدق معه من صدقى مع نفسى هذه هى المكافأة التى قصدت، هكذا كافأته، أحببته أكثر من أى شىء فى الكون.
كان زواجنا حلماً رائعاً لكلينا، لهذا أستغرب كيف للحياة أن تكتمل على هذا النحو؟ كنت أتنفس من رئتيه، وكان قلبه ينبض فى صدرى أنا. إذن كيف رحل؟ كيف؟! فأنا ما زلت على قيد الحياة، كيف رحل وحده؟! كان حبيبى يهوى مفاجأتى بمواعيد سفره ورجوعه، فيخبرنى قبلها بوقت وجيز جداً، بالكاد يسمح لى بتجهيز حقيبة سفره، مودعة، أو بتحضير المنزل وأطايب الطعام، مستقبلة إياه، وها هو يفاجئنى للمرة الأخيرة وأنا أصرخ فيه للمرة الأخيرة معترضة على مفاجأته: «يا عبدالله قوم قوم، ما اعرفش أعمل حاجة من غيرك، ما اعرفش أعيش من غيرك قوم»، ولكنه لم يقم، خمس دقائق فقط كانت بينى وبينه لم أتمكن من إمساك يده وروحه تفارقه مع أنى منذ أن تزوجنا لم أترك يده لحظة فى السراء وقبلها الضراء، حتى الصعاب كانت معه متعة، التحدى والإصرار والثبات وتحمّل ما لا يُحتمل. وبمناسبة المنغصات التى تعرّض لها، أتذكر أيام يناير فى أولها، وكيف تحوّلت غرفة معيشة منزلنا إلى غرفة عمليات جميع المحطات الإخبارية، والمذيعون يتحدثون إليه، يسألونه ويستعلمون منه ويطلبون منه الشرح والإفادة والتحليل، وبعضهم كان يتجاوز، مطلقاً عليه سهاماً من غضب وغل وانحطاط، ظاناً أنه بذلك ينال من الدولة المصرية بذاتها، نعم أنا لا أبالغ عندما أقول إن عبدالله كمال رمز أصيل للدولة المصرية، هو رجل دولة، مخلص أمين، أحب مصر وخدمها، لآخر نفس فيه.
قلبه الأبيض لم يعرف سوى التسامح والحب والغفران، وهنا أكاد أرانى فى الأيام نفسها، بل السنوات العصيبة أتأبط ذراعه فى الأماكن العامة، رافعة رأسى متحفزة مخرجة أنيابى وأظافرى، استعداداً لمتجاوزى الثوار والإخوان، وأراه يلتفت إلىّ فجأة مستغرباً وأحياناً ضاحكاً: «ماذا تفعلين؟ لماذا تتصرفين بهذا العنف؟!». وأرد عليه وأنا ما زلت على حالتى من التحفُّز وربما الاستعداد للانقضاض على المتفرسين به وبأسرته: «سيبنى يا عبدالله، أنا عاوزة حد فيهم ييجى تحت إيدى نسيت الإنبوكس عندك وعندى فيه افترا وتجاوز وتهديدات قد إيه؟! هو مين اللى بيصحينا كل يوم الصبح على بلاغات كيدية؟ هو مين اللى بينشر عنوان منزلنا فى الصحف للنيل منك ومن أسرتك؟ ومن الذى يتهمنا فى ذمتنا المالية وأنت أشرف من رأت عينى»، وكان يجيب: «لا عليكِ، ربنا كبير».
كان حبيبى صبوراً كتوماً، وأما عن صبره، فتؤلف فيه الكتب، لم أخجل يوماً من التصريح بحبه وعشقه والذوبان فيه، كانت عيناى تفيضان بالدمع عند الحديث عنه، لا أترك أحداً من معارفى إلا وهو عاشق له مثلى، أتحدث وأتحدث وأتحدث عن جميل خصاله ومحاسنه وعن عشقى له حتى إن صديقاتى، كان بعضهن ينعتنى بمسحورة عبدالله كمال، والبعض الآخر يقلن توقفى عن امتداحه بهذه الصورة والحديث عنه بهذا الولع، فنحن قد أحببناه ألا تخشين عليه؟! وكان ردى دائماً وماذا فيها إن أحببتموه؟ إنه إنسان جدير بكل حب، وهو أهل للعشق والافتتان والولع والانتظار والحلم به، ولكن لا تقربنه فهو شجرة الجنة المحرمة، أنا فقط من تقترب، فوحدى أنا وبلا منازع وبكل فخر. وإلى الأبد حرم عبدالله كمال.