حين حطَّتْ الطائرة بى فى عاصمة السويد المسمّاة اليوم «ستوكهولم»، لم أنتبه من غيبوبة غَرقى فى نومى، إلا مع احتكاك العجلاتِ الكبار بأرض مهبط المطار المُغطّى بالجليد، وبالظلام. أمضيتُ ساعات الطيران نائماً، لأننى لم أذُق طعمَ النعاس العميق من قبلها بيومين، كنتُ خلالهما كلما غفوتُ رأيتُ حُلماً يُوقظنى مؤرقاً، ويُبقينى مُسهَّداً: أرانى أسيرُ وحدى فى سَرَبٍ دهليزىٍّ مهجورٌ، طويلٍ وخاوٍ، كأنه سردابٌ مسحورٌ يسطع ضوؤه الباهرُ فى جنباته، فيمنع عينى عن الإبصار. ومن مكانٍ بعيدٍ بجوف السرداب، يصلنى صوتٌ هامسٌ يقول بلفظٍ عربىٍّ مبين: لن ترى إذا انعدم الضوء، وإذا اشتدَّ وزادَ وجازَ الحدَّ.
من فوق سُلَّم الطائرة بهرنى لمعان الثلوج النائمة فوق الأشياء فى كل الأنحاء، واسوداد السماء وغياب شمسها، مع أن ساعتى لا تخادعنى حين تخبرنى بأننا فى وقت الضحى. هنا لا صباح ولا ضحى، ولا غروب ولا شروق، والشتاءُ شتاءٌ تامٌّ. ففى مثل هذه الأوقات من أواخر وبدايات العام، يعمّ الأنحاءَ الظلامُ طيلةَ الأوقات فلا يتعاقب ليلٌ ونهار، وليس ثمة إلا ليلٌ يمتد دوماً.. وفى امتداد الليل ويل.
قيل لى هنا إن شهور الشتاء تنعدم فيها الشمسُ، فتسود العتمةُ ويعمقُ الاغتراب والوحشةُ التى تقود الناس للغوص فى قيعان نفوسهم، ونقائعها، وتحدو ببعضهم إلى طلب الأنوار بالانتحار من دون الحاجة لإبداء اعتذار. وقيل لى إن أهل هذا البلد ضخام الأجسام لأنهم أحفاد قومٍ أشداء، كان اسمهم فيما مضى «الفايكنج» وكانوا يروّعون النواحى الجنوبية، لكن أحفادهم صاروا وُدعاء إلى حدّ التهيؤ للاكتئاب. ورجالهم دوماً حزنانون لأنهم محتارون، لأنهم لا يتعبون، ونساؤهم فاتنات الهيئة وحسناوات لكنهنَّ خالياتُ الوفاض من فنون المداعبة والملاعبة والمشاغبة، التى تبدو معها غير الجميلات جميلات.. قلتُ فى نفسى ما خلاصته أن وقتى ضيقٌ، ولا شأن لى هنا بالنساء ولا بالرجال ولا باستدامة ليل الشتاء. فقد جئتُ لهدفٍ وحيد لن أحيد عنه إلى غيره، ولا يصح أن يشغلنى عنه سواه، هو أن اطَّلع على المخطوطة العربية المحفوظة بمكتبة البلاد الملكية، فأعرف السرَّ المخبوء تحت عنوانها العجيب: كتاب سِرِّ الخليقة وصنعة الطبيعة.
بعد ساعات من وصولى، وصلتُ إلى المكتبة العريقة فأخرجوا لى المخطوطة العتيقة، فصفّق قلبى بين الضلوع فرحاً. تأمّلتها قبل القراءة، فوجدتُ حواف أوراقها قد تهرّأت بفعل الزمن، لكن قلب الأوراق اقتدر على مقاومة البِلَى والفقد، فبقيت المخطوطة منزويةً هناك وآمنةً، حتى سمعتُ بها وتيسَّر لى الاهتداء إليها. وها أنا قد وصلتُ إليها، وعلى وشك الإبحار فوق موج صفحاتها..
بقيتُ بخزانة الكتب المخطوطة سبع ساعات، تامّات، غُصت خلالها فى أعماق المخطوطة فرأيتُ من العجب عُجاب. بأولها، وجدتُ هذا الكلام الغريب الذى سأنقل منه طرفاً فى السطور التاليات، ولن أُغيِّر منه حرفاً لكنى سأوضّح بعض الكلماتِ بكلماتٍ أضمُّها بين قوسين، عسى المعنى يقترب للأذهان ويلامس الأفهام. فيتضح ما كان، وما سوف يكون.
■ ■
قال أبولونيوس (فى المخطوطة: بلنياس) الحكيم، فى كتابه هذا. أقولُ لكم على إثر كتابى، وأصف الحكمة التى أُيِّدتُ بها. لتسمعوا حكمتى، وتنفُذ فى أفهامكم، وتخامر طبائعكم. فمن اتصل كلامى بطبائعه، فتحرَّكتْ، فهو كاملُ الطباع سليمٌ من الأعراض، نقىُّ النفس من الظلمة الحائلة بينه وبين طلب الحكمة.. ومَن لم تتحرَّك طبائعه من استماع كلامى، فإن ذلك من التباس الظُّلمة بنوره، وكثرة الغِلَظ الحائل بين لطيفه وبين التصعُّد فى دَرَجِ الحكمة، كما حَالَ السحابُ المظلمُ بين نور البصر النيِّر وبين الاتصال بأنوار الكواكب المضيئة.
أنا بلنيوس الحكيم صاحب الطِّلَسْمَات (جمع طِلَّسم، مقلوب كلمة مُسَلَّط) والعجائب، أنا الذى أوتيتُ الحكمة من مدبِّر العالم، بخصوصية.. فأدركتُ كُلَّ ما غاب عن الحواسِّ الظاهرة، بالحواس الباطنة، التى هى الفكرةُ والفطنةُ والذكاءُ والهمَّةُ والنيّةُ.
.. إن كل شىء، فمن الطبائع الأربع، التى هى الحر والبرد واللين واليُبس. والأشياءُ متصلةٌ بها، وهى متصلةٌ بعضُها ببعضٍ كلها. تدور فى مدارٍ واحدٍ، يجمعها نظامٌ واحدٌ، يدور بها فلكٌ واحد. فأعلاها متصلٌ بأسفلها وأدناها متصل بأقصاها، لأنها كانت كلها من جوهرٍ واحدٍ، من نطفةٍ واحدةٍ يجمعها طبعٌ واحدٌ لا اختلاف فيه. حتى عرضتْ فيه الأعراضُ، فتباينتْ أجزاءُ ذلك الجوهر، وتفرَّقتْ الخِلَق باختلاف تركيب الطبائع، ووقعتْ عليها الأسماءُ المختلفة.. وإنما تكلمتُ بهذا الكلام فى ابتداء كتابى هذا، ليكون مَن فهمه عالماً بجوامع العلم، فيستدلَّ بعلم ذلك على علم سرائر الخليقة، ويدرك منه صنعة الطبيعة.
والآن أُخبركم بسَبَبى ونَسَبى. إنى كنتُ يتيماً من أهل طوانة (بلدة اسمها اليوم، تيانا) لا شىءَ لى (فقير، مُعدم) وكان فى بلدى تمثالٌ من حجرٍ متلوِّنٍ بألوانٍ شتى، وقد أُقيم على عمودٍ من زجاجٍ مكتوبٍ عليه بالكتاب الأول (اللغة القديمة): أنا هرمسُ المثلَّث بالحكمة، عملتُ هذه الآية (العلامة) جِهاراً، وحجبتها بحكمتى لئلا يصل إليها إلا حكيمٌ مثلى.
ومكتوبٌ على صدر ذلك العمود، باللسان الأول: مَن أراد أن يعلم سرائر الخليقة وصنعة الطبيعة، فلينظر تحت رجلىَّ. فلم يأبه الناسُ لما يقول، وكانوا ينظرون تحت قدميه، فلا يرون شيئاً. وكنتُ ضعيف الطبيعة، لصِغَرى، فلما قويتْ طبيعتى وقرأتُ ما كان مكتوباً على صدر ذلك التمثال. فَطنتُ لما يقول، فجئتُ فحفرتُ تحت العمود، فإذا أنا بسَرَبٍ (سرداب) مملوءٍ ظُلمةً لا يدخله نورُ الشمس، وإن طلعتْ عليه تحرَّكتْ فيه رياحٌ لا تفتر (لا تهدأ) فلم أجد إلى الدخول إليه سبيلاً، لظُلمته، ولم يثبتْ لى فيه ضوءٌ (شمعة، قنديل) لكثرة رياحه.
فضِقْتُ بذلك ذرعاً، واشتدَّ غَمّى. فغلبتنى عيناى (بكيتُ) وأنا مهموم القلب متفكِّرٌ فيما لقيتُ من النَّصَبِ (التعب الشديد) إذ تخيَّل لى شيخٌ على صورتى ومثالى (يشبهنى تماماً) فقال لى: يا بلينوس، قُم فادخلْ هذا السَّرَب، لتصل إلى علم سرائر الخليقة وتُدرك منه صنعة الطبيعة. قلتُ إنى لا أُبصر فى ظُلمته، ولا يثبُتُ لى فيه ضوءُ نارٍ، لكثرة رياحه. فقال لى: يا بلينوس، ضَعْ نورك فى إناءٍ صافٍ تحجب به الريح عن نورك..
فطابت نفسى عند ذلك، وعلمتُ أنى قد أدركتُ طِلبتى (مرادى) فقلت: مَن أنت، لقد مننتَ علىَّ؟ فقال: أنا طباعك التام.. فاستيقظتُ فَرِحاً، فوضعتُ نوراً فى إناءٍ صافٍ (خلَّصتُ روحى من مطالب البدن) كما أمرنى، ثم دخلتُ السَّرَب فإذا أنا بشيخٍ قاعدٍ على كرسىٍّ من ذهب، وفى يده لوح من زَبَرجدٍ أخضر، مكتوبٌ فى اللوح «هذا صنعةُ الطبيعة» وبين يديه كتابٌ مكتوبٌ فيه «هذا سر الخليقة وعلم علل الأشياء». فأخذتُ الكتاب واللوح، مطمئناً، ثم خرجتُ من السَّرَب. فتعلَّمتُ من الكتاب علم سرائر (أسرار) الخليقة، وأدركتُ من اللوح صنعة الطبيعة، وتعلَّمت علم عِلل (أسباب) الأشياء، وارتفع اسمى بالحكمة وعملتُ الطِّلمسات والعجائب، وعلمتُ مزاجات الطبائع الأربع وتراكيبها واختلافها وائتلافها. فأنا واضعٌ هذه الكتب لمن بعدى، كما وضعها لى مَن كان قبلى.. ولا يقرأ كتابى هذا أحدٌ من الناس، إلا ازداد علماً واستغنى عما فى أيدى الناس، وعن طلب شىء من الأشياء..
■ ■
بعدما عكفتُ على المخطوطة لساعاتٍ، ساكناتٍ، وتنقَّلتُ بين أوراقها من مدهشٍ وغريبٍ إلى ماهو أدهشُ وأغرب، بلا مقدرة على إرجاء القراءة إلى غد، أو اقتدار على إيقاف الدوار العاصف فى جوف عقلى.. بقيتُ أقرأ الصفحات، مسحوراً، حتى صدمتنى عبارةٌ فى المخطوطة لم أستطع بعدها استكمال النظر فى هذا الكلام، المكتوب باليونانية منذ ألفىْ عام والمترجم للعربية منذ ألف سنة. ومع أن طول الأجل يُبلّغ الأمل، إلا أن المخطوطة فى عمرها المديد لم يقرأها من يوم كُتبتْ إلى يوم الناس هذا، إلا بضعةُ نساءٍ أُحرقن قديماً، وبعضُ رجالٍ من خاصة الحكماء الذين انزووا عن بقية الخَلق بعد قراءتها، فعاشوا سعداء حيناً من الدهر. ثم انطوت تلك السنون وأهلُها، فكأنها وكأنهم أحلامُ. حسبما قال شاعرٌ قديم.
خرجتُ من المكتبة وفى داخلى تعصفُ معانى العبارة التى قلبتْ دولة قلبى، وعقلى، وفى الشوارع الساكنة تعصفُ رياحٌ مُحملة بقطع البَرَد الهائم فى الهواء. هذا هو «الزمهرير» الذى طالما سمعنا عنه ولم نره، وطالما تحدّث عنه شعراؤنا المساكين وهم لم يروه.. فى الفندق الكئيب، الواقع على ناصية الشارع الكئيب، المطلّ على عرصة كئيبة. جلستُ وحيداً حتى سمعتُ صلصلة الجرس تتردّد فى صدرى أصداؤها، وتدُكّ التراكيب، فعرفتُ أنها إشارةٌ صريحةٌ تخبرنى بأن أوان رجوعى للوطن، آن.
بعدها بساعاتٍ لا حساب لها عندى، ولا إحساس بها، عادت بى الطائرةُ إلى القاهرة.. لما خرجتُ من مطارنا المرحِّب على بوابته باجتياح اليهود لأرض مصر، عبر لافتة عريضة فيها تأكيدٌ للدعوة العريضة بالآية القرآنية «ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين»، رأيت فى قلب الزحام ما يُطيش العقول عن المعانى، ويُشوّش الأفهام. بيد أن العبارة التى قرأتها فى المخطوطة كانت كالنور الهادى فى جوف ظلام هذا الازدحام.. ملايين المصريين تهدر من حولى حركتُهُم فى قلب المدينة، المرآب، وفى قلبى وعقلى وروحى ليس ثمة إلا العبارة المِفتاح، التى طاشت بعدها السهامُ وطاحتْ الرواسخ.. فيها يقول ساكنُ السرداب، بأواخر المخطوطة، ما نصُّه: ما ذكَّرَ المذكَّرَ، هو ما انَّثَ المؤنَّثَ.
■ ■
يا قوم، قد انتهت هذه القصة.. ولكنها لم تنتهِ.. ولن.