توجد أربعة طرق يسير فيها الناس فى تعاملاتهم مع الآخرين:
الطريق الأول: يسير فيه منْ يتعامل لكى يكسب هو ويخسر الآخرون.
الطريق الثانى: يسير فيه منْ يتعامل لكى يكسب هو ويكسب الآخرون.
الطريق الثالث: يسير فيه منْ يتعامل لكى يخسر هو ويخسر الطرف الآخر.
الطريق الرابع: يسير فيه منْ يتعامل لكى يخسر هو ويكسب الآخرون.
وتنتهج الرأسمالية المتوحشة «الطريق الأول»؛ فهى لا يهمها إلا المكسب، ولا يهمها الوطن ولا الناس، وهى تتصور أن السوق أشبه بميدان حرب بينها وبين الجميع، وهى لا همَّ لها إلا اصطياد الطرف الآخر وتحقيق الأرباح. والقرين السياسى لهذا النظام الرأسمالى المتوحش، هو الجماعات والقوى السياسية التى تعمل بالطريقة نفسها: تريد أن تكسب كل شىء ويخسر الآخرون كل شىء. أما القرين الاجتماعى فهو مجتمع التحرش بكل مستوياته، فليس التحرش هو التحرش الجنسى فقط، وإنما هناك التحرش العقائدى بالتكفير، والتحرش الفكرى بالتلاسن والاتهامات والتخوين، والتحرش الاجتماعى بالتجسس والتطفل والتنابز بالألقاب وانتحالها أيضاً!
وفى الحقيقة أن الترابط بين المستويات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية كبير جداً، ومن هنا نفهم معنى العبارة الحكيمة: «كما تكونوا يولَّى عليكم»، أى أن أحوال الناس وطريقة حياتهم وأخلاقهم وأساليبهم الاجتماعية والاقتصادية يترتب عليها منطقياً أسلوب الحكم السياسى الذى يتلاءم معهم؛ فالمجتمع الصالح يضع نظام حكم صالح، والعكس بالعكس، والمجتمع الديمقراطى يتمخض عنه حكم ديمقراطى، والمجتمع غير الديمقراطى ينشأ عنه بالضرورة نظام غير ديمقراطى.. وهكذا فى كل شىء.
أما الرأسمالية الوطنية فهى تسير فى «الطريق الثانى»، تريد أن تكسب وفى الوقت نفسه يكسب المجتمع. وهذه رأسمالية ذكية لأن المجتمع القوى يُنعش الاقتصاد أكثر وتزداد فيه حركة البيع والشراء؛ مما يعود مرة أخرى على المشروعات الرأسمالية. وهناك حكمة شعبية تقول «اكسب أقل تكسب أكثر»؛ لأن من يبيع بسعر أقل من غيره يبيع أكثر؛ وبالتالى يزداد معدل الربح فى النهاية. إنها معادلة اقتصادية وليست حكمة أخلاقية، لكن مَنْ يفهم ومَنْ يستوعب من قصار النظر الذين غفلت أعينهم ولا يريدون إلا الربح الكبير والسريع؟ وهؤلاء أُبتلينا بهم منذ السبعينات.
ولعل القارئ الكريم الذى اطلع على مقال الأسبوع الماضى (الفقر والرأسمالية المتوحشة.. هذا هو الحل)، يلاحظ أنه بعد هذا التوقيت ظهرت مجموعة من القرارات التى تصلح النظام الضريبى، وتقنن بعض الجوانب الاقتصادية لضرب الاحتكار وحماية المنافسة والحد من بعض امتيازات الرأسمالية المتوحشة، وتقليل الفجوة الكبرى فى الدخول بين الطبقات العليا والدنيا فى النظام الإدارى للدولة. ولا أدرى هل هذا بتأثير من هذا المقال وغيره لكتاب آخرين، أم أنها مجرد علاقة صدفة، أم أنها جزء من روشتة الإصلاح التى باتت بديهية ومعروفة منذ زمن بعيد لكن الأنظمة السياسية السابقة لم تكن تطبقها لعدم وجود إرادة الإصلاح عندها أو لتضارب المصالح الناتج عن عمل الأنظمة السابقة بالتجارة وجمعها بين السلطة والثروة.
وأرجو ألا تكون هذه القرارات ذراً للرماد فى العيون، بل مرحلة تعقبها مراحل ومراحل من الإصلاح الاقتصادى والاجتماعى، لضرب الرأسمالية المتوحشة وإفساح الطريق للرأسمالية الوطنية التى بدت بوادرها تظهر عند بعض رجال الأعمال الذين سارع أحدهم بالتنازل عن نصف شركاته لصالح مصر، ولتأكيد أن الإصلاح ليس واجباً على الحكومة وحدها، بل فريضة على المجتمع كله وعلى رأسه رجال الأعمال. فرجل الأعمال الذى يريد أن يكسب ويكسب الجميع هو من يمثل الرأسمالية الوطنية.
أما «الطريق الثالث» الذى يسير فيه من يتعامل لكى يخسر الطرفان. فلا أجد له مثالاً مباشراً فى الاقتصاد إلا فى حالات «تكسير العظام» بين رجال الأعمال؛ حيث يحكم الحقد الشخصى عملية الصراع، ولكن أجد له أمثلة وأمثلة فى الاجتماع والسياسة، ففى الحياة الاجتماعية التى يسيطر عليها الحسد المرضى والفشل المستمر والكراهية، تجد أطرافها غير مشغولين إلا بالهدم والضرب تحت الحزام، فكل طرف مشغول طوال الوقت لا بتحقيق النجاح لنفسه، بل مشغول بتعطيل منافسه وإفشاله وتجريحه وإلحاق أكبر خسارة به، حتى لو كانت هذه الخسارة لا تتحقق إلا بأن يخسر هو أيضاً (علىَّ وعلى أعدائى). وفى السياسة حدِّث ولا حرج، سواء عند أكثر القوى السياسية، أو عند الإرهابيين الانتحاريين الذين يسيطر عليهم «وهم» الشهادة فى معارك مصالح دنيوية يصورها سادتهم على أنها معارك من أجل الدين!
ويسير فى الطريق الرابع: منْ يتعامل لكى يخسر ويكسب الآخرون. فهذا إما مريض من النوع الماسوشى (مَنْ يستمتع بالألم الذى يسببه الآخر)، وإما يتمتع بحب كبير للآخر مثل الأب والأم مع أولادهما. وطبعاً لن تجد هذا النموذج فى السياسة ولا فى الاقتصاد؛ فالعلاقة فيهما علاقة مصالح مستنيرة أو علاقة مصالح غبية، أما الأسرة فالرابطة الحاكمة لها هى «الحب» أو هكذا ينبغى أن يكون.
ومشكلة مجتمعنا أنه لا يزال قابعاً فى مرحلة المصالح الغبية، ولم ينتقل بعد إلى مرحلة المصالح المستنيرة التى يلخصها مبدأ «أكسبُ ويكسبُ الجميع». وهذا هو المبدأ الذكى للرأسمالية الوطنية.