إننا بحاجة إلى «رأسمالية وطنية جديدة»، بحاجة إلى طلعت حرب جديد، لكن هذه المرة لا نحتاج إلى طلعت حرب كزعيم اقتصادى فرد، بل إلى مئات من نموذجه ومن معدنه: يكسبون ويكسب الجميع، لا تلك النماذج الرأسمالية الأنانية التى تريد أن تكسب ويخسر الجميع، تريد أن تغتنى وتغتنى ويخسر الوطن.
أتذكّر أن أحد البرامج بالتليفزيون المصرى استضافنى قبل ثورة 25 يناير بثلاث سنوات لأتحدث عن الهجرة غير المشروعة، وكان مما قلته من أسباب هذه الظاهرة: عدم الرغبة فى التحول نحو «الرأسمالية الاجتماعية» التى تقرّب المسافة بين الأغنياء والفقراء؛ وفرض نظام ضريبى متعدد وتصاعدى مثل النظام الأمريكى أو الألمانى، على أن تعود الضرائب إلى المواطنين مرة أخرى من خلال تحسين المناخ الاقتصادى، وتمويل مشروعات إنتاجية صناعية وزراعية تستوعب الشباب، وتوظيف جزء من الضرائب لإعانات البطالة، والتأمينات الاجتماعية، والرعاية الصحية. كما تطرقت فى ذلك اللقاء التليفزيونى إلى ضرورة ضرب الاحتكارات الاقتصادية التى يسيطر عليها المقربون من السلطة. وفوجئت، أثناء عرضى لهذا الرأى، بمقاطعات لا حصر لها من المذيع الأرستقراطى. وقد استخدمت كل تكتيكات الحوار لكى أكمل عرض رأيى، وما إن انتهيت منه حتى قابلنى ذلك المذيع بنقاش حاد مستعيناً بضيف آخر من عيّنة المثقفين الذين يأكلون على موائد الرأسماليين غير الوطنيين، وقد ألقى الاثنان باللوم على الشباب مدافعين عن نظام اقتصادى نخبوى فاسد.
إن اتساع رقعة الفقر فى مصر وصل إلى معدلات غير مسبوقة، ولا يرجع هذا إلى فقر مصر كبلد، فهى غنية بمواردها الطبيعية والبشرية، ولكن يرجع إلى الفساد، وسوء الإدارة، والنظم العتيقة التى تكبّل الاستثمار، والتى تسمح بالاستثمار الاستهلاكى، ولا توجه المستثمرين نحو الاستثمار الإنتاجى أو الصناعى أو الزراعى، مثلاً تسمح باستثمار الـ«هايبر ماركت» والتوكيلات التجارية، وهو استثمار لا نحتاج المزيد منه ولا يضيف إلينا شيئاً.
ومن أكبر أسباب الفقر: القوانين والتشريعات المنحازة لأصحاب رؤوس الأموال، ونظام الضرائب المختل الذى يتعامل مع الرأسماليين بوصفهم محتاجين دائماً، وبشكل مستمر، إلى الدعم الحكومى من بلد فقير، مثل دعم الطاقة، مع وعود منهم بدعم الفقراء، وطبعاً لم يفوا بذلك إلا بشكل دعائى إعلامى فى تخلٍّ كامل عن قيامهم بواجباتهم الوطنية؛ وأنا هنا لا أقصد التفضل بالصدقات والزكوات على الفقراء، ولكن أقصد وجوب توجيه الاستثمارات نحو المشروعات الصناعية والزراعية التى تفتح أبواباً لفرص عمل جديدة وتزيد الدخل القومى، وطبعاً مع إعطاء العمال حقوقهم لا مص دمائهم.
إن سياسات وقوانين عصر مبارك المنحازة إلى «عصابة مالية طفيلية» هى التى أدت إلى تكدس الأموال فى يد نخبة غير وطنية لا تحكمها سوى «الرأسمالية المتوحشة». وربما يكون أحد أكبر أخطاء ذلك العصر هو العجز عن التحول نحو «الرأسمالية الاجتماعية»، بل عدم الرغبة أصلاً فى هذا التحول!
لا بد أن تنتهج حكومة الرئيس الجديد سياسات عملية لمواجهة الفقر، والروشتة جاهزة ولا تحتاج إلى إبداع أو تنظير، مثل: توجيه الاستثمار الأجنبى نحو فتح مشروعات استثمارية صناعية وزراعية، وعدم السماح بالاستثمار الاستهلاكى القائم على الاستيراد من الخارج والبيع فى مصر، وتشجيع المبادرات الاقتصادية من الأفراد والشركات الصغيرة، وإنشاء مراكز للتدريب على الحرف والمهن التى يحتاجها المجتمع، وتقنين مصانع «بير السلم»؛ فمن الممكن أن تتحول إذا أُحسن التعامل معها إلى نواة تصنيعية تنهض بالصناعة المصرية على الطريقة الصينية فى بداية نهضتها. فضلاً عن تقديم القروض الصغيرة لتدعيم مشروعات الشباب.
وربما يكون الأكثر أهمية هو إحياء الهيئة العربية للتصنيع، وإحلال وتجديد مصانع الإنتاج الحربى، وإنشاء مزارع ضخمة للجيش، مع الاستفادة من فترة التجنيد الإجبارى فى إلحاق الخريجين المتميزين بهذه المزارع وتلك المصانع، ووجوب مرور الفتيات بفترة مناظرة من «الخدمة العامة»، والاستفادة منهن فى مشروعات إنتاجية بدلاً من قضاء هذه الفترة بشكل صورى أو على الورق فقط! ألسنا نطالب جميعاً بالمساواة بين الإناث والذكور؟! فالمساواة ليست فى الحقوق فقط، بل فى الواجبات أيضاً، مع مراعاة الفروق البيولوجية بطبيعة الحال.
لقد كانت تقوم بدور كبير فى ضبط حركة السوق، حتى لا يستأثر بها التجار الجشعون من الكبار أو الصغار، وحتى تصل السلع إلى المواطنين متوسطى الحال والفقراء بهامش ربح معقول.
إن ترك السوق لأصحاب الاحتكارات يؤدى إلى الرفع المستمر للأسعار دون مبرر، وهؤلاء لا ينفع معهم نظام التسعيرة، والأفضل ترك السوق تعمل بحرية لكن دون احتكار وبمنافسة قوية من القطاع الحكومى من خلال نظام «المجمعات الاستهلاكية»؛ فهنا سوف ينضبط نظام العرض والطلب لصالح جميع الأطراف. وفى كل الأحوال لا بد من فرض نظام صارم لحماية المنتجات المصرية من مافيا الإغراق بالاستيراد، وفى الوقت نفسه إخضاع المنتجات المصرية لنظام ومعايير الجودة؛ فالعقيدة الوطنية وحدها لا تكفى، بل لا بد من تحسين المنتج الوطنى، حتى يُقبل عليه المواطن مؤمناً بجودته، وحتى يمكن تصديره إلى الخارج.