صناع قرية «الشعرا» يروون وقائع انهيار «قلعة الأثاث»
تنطلق الزغاريد بعدما تحدد موعد الزفاف، يسارع الزوجان للاستعداد لهذا اليوم، فتأثيث منزل جديد ليس بالأمر البسيط، والوصول لمنزل متميز يلزمه مكونات متميزة يأتى الأثاث فى مقدمتها، فبمجرد التفكير فى انتقاء أثاث متميز، تكون دمياط محور الحديث ووجهته الأولى. فى الجولة الأولى بين الورش والمصانع لا تكاد عيناك تصدقان أن وراء هذا الفن الراقى أيادى شابة كبلتها الحاجة وأثقلها المرض. على بعد بضعة كيلومترات من معارض دمياط العالمية للأثاث، هناك حياة أخرى صنعت الإبداع ولكنها تصارع من أجل البقاء، إنها قرية «الشعرا»، أشهر القرى فى صناعة الأثاث. لست فى حاجة لمعرفة ذلك، فتأملك قليلاً فى الشوارع حولك، مع نسمة هواء تهب من اتجاه البحر، تحمل رائحة قد تصيبك للمرة الأولى بشىء من عدم التوازن، إنها الحياة بطعم الموت كما يصفها أصحابها؛ ففى إحدى الحارات الضيقة، قد تخطئ التفسير إذا كان المشهد لممر أم لورشة، فالورش لا تنفصل عن الإنسان الدمياطى بقرية «الشعرا». فى أحد المنازل الذى تحول طابقه الأول إلى مخزن للأخشاب وقطع الأثاث، وقف رجل بدا عليه الإعياء والضعف، إنه خالد أحمد الرداد «مدهباتى واسترجى»، اضطر «أحمد» لإغلاق ورشته التى كان يعمل بها نحو 20 صانعاً منذ سنوات، بعدما أعلن إفلاسه بسبب غلاء الخامات وسيطرة كبار التجار، ما دفعه لبيع إنتاجه بنصف الثمن ليستطيع أن يسدد ما عليه من أقساط. يقول «أحمد» دامعاً: «اضطررت لتصفية مصلحتى وورشتى، واشتغلت فى بير السلم، أفضل لى من تجارة المخدرات أو ترك عائلتى والهجرة للخارج، ونفسى ولادى مايطلعوش زيى ولا يشوفوا اللى شفته، ويكون ليا تأمين صحى، ولو تعبت أعرف أتعالج، ومعاش يساعدنى على تربيتهم ويسندهم بعد موتى»، ويواصل: «لا نقابة ولا غرفة تجارية بتعمل لنا شىء، ولا معترفين بينا أصلاً، إحنا غلابة مداسين بالأقدام، مانقدرش نقف أمام طواحين الهواء، فأغلبنا مديون ومعرضين ندخل السجن». ويقاطع «رضا المهدى» الحديث ليقول فى غضب: «لو حد كشف علينا إحنا مدة صلاحيتنا انتهت، كنا بنشتغل الأول بمواد صديقة الإنسان ولاكيهات مش بتأثر علينا، ودلوقتى بنشتغل بسموم وبنموت كل يوم بالبطىء بسبب الخامات المضروبة اللى شغالين بيها، ملتنا أمراض وخلتنا خايفين نروح نعمل أشعة بعد ما نصنا سكن المستشفيات بسبب أمراض الرئة والجهاز التنفسى والسرطان، والنص التانى ما بين المستشفى والورشة». «اضطررت للتوقف بعد إصابتى بالسرطان واستئصالى جزء من السرطان، مابقتش زى الأول، ومش قادر أرجع ورشتى تانى، ولو عملت أى حركة أو مجهود باتعب»، حسب السيد الرداد، أحد ضحايا صناعة الأثاث بدمياط، وهو الأمر الذى يؤكده محمد الحلبى، حفيد سليمان الحلبى، قائلاً: «البولى استر حطنا ما بين خيارين أمر من بعض: إما الجوع أو الموت البطىء، واحنا اخترنا الموت». ويقول الشاب العشرينى مختار عبدالهادى، الذى يعمل «استرجى»: «أنا مش عايش سنى زى باقى الشباب، أنا باموت بالبطىء بسبب الكيماويات، وفى الآخر الدولة لا هتوفر لى تأمين أو معاش فى الوقت اللى بيضيع من عمرى فى مهنتى عشان أرفع اسم بلدى، ويفضل اسم دمياط عالى». من جهته، طالب طه حبيب، منسق حركة عمال دمياط، بوقف استيراد الأثاث الصينى والتركى، والتوقف عن استخدام البولى استر لما يسببه من أمراض سرطانية وتنفسية، مشيراً لارتفاع أسعار الخامات من 30: 40%، ما دفع البعض لاستخدام مواد خطيرة ومحظور استخدامها، ما تسبب فى إغلاق ما يزيد على 40% من ورش صناعة الأثاث بدمياط. مع حالة الكساد الاقتصادى والانفلات الأمنى الذى شهدته مصر بشكل عام، ودمياط بشكل خاص، أغلق ما يزيد على 40% من الورش، وسُرح نحو 40% من العمالة الماهرة، فمنهم من لجأ للهجرة غير الشرعية، واحترف آخرون تجارة المخدرات، أو تحولوا إلى مهن أخرى.