كتب قبل عشرين يوماً من وفاته بعنوان «تأملات فى فقه السعادة والمشقة والمرض» فقال: «نشأت فى ظروف اجتماعية جعلت كثيرين يعتبروننى وُلدت لأتناول صفو الحياة بملعقة من فضة.. ولكن الذى حدث لى بالفعل أنى تناولت الحياة فعلاً بملاعق من حديد حامٍ تشوى القلوب والجلود: سُجنت 8٫5 عام، وحوالى 12 عاماً منفى، ومصادرة مرتين، وحكم بالإعدام مرة، واتهامات عقوبتها الإعدام ثلاث مرات فى يونيو 1970م، وفى مايو 2014، وفى أبريل 2018م»، وتحدّث فيها عن اجتهاداته الكثيرة التى تكاد تكون فُرضت عليه «ما تعرضت له من مشاق دفعنى لاجتهادات نضالية وفكرية غير مسبوقة فى جيلى: انتخابات لرئاسات وأنا فى نعومة أظفارى، ويعلم الله فُرضت علىّ بإرادة الجماهير لا بتدابيرى. وألفت من الكتب فى شتى الموضوعات»، ثم تحدّث عن لطف الله بحديث لا يصدر إلا عن الحكماء الأتقياء: «لا يمكن لشخص خاصة فى بلادنا ينال حظاً مرموقاً أن ينجو من إبر النحل التى أحبطت بعض أحبابى، ولكن توالى غيث ضمَّد الإبر بالعسل، وهضمت وقع النبال بأنها إما نقد يفيد من باب: رحم الله امرءاً أهدى لنا عيوبنا، أو هى جائرة تدر علىَّ عطفاً»، وتحدَّث بمشاعر فياضة وبكلمات حزينة عن إصابته بكورونا: «من أدهش ما مُنيت به مقولة: الصادق أعجوبة! وأنه لا يمرض، وههنا أقف عند المحطة الراهنة فى حياتى، حيث أُصبت بداء كورونا، فاجعة مؤلمة وضعتنى فى ثياب أيوب عليه السلام»، وهو فى غمرة مرضه يتحدث عن مراجعته لنفسه ومحاسبته لها فيقول: «ألم المرض خير فترة لمراجعة الحسابات الفردية والأخلاقية والاجتماعية، ومن تمر به الآلام دون مراجعات تفوته ثمرات العظات»، حيث إنه «فى كل مناحى الحياة فإن الألم خير واعظ لصاحبه. النقد الذاتى من أهم أدوات الإصلاح، والرضا عن الذات يقفل باب النفس اللوامة»، وهل يُحسن الحديث عن فقه المراجعة والنقد الذاتى سواه، وهو من أفضل مَن جمع بين الدين والحياة وأدرك مراميها، وهل هناك سياسى عربى واحد نقد نفسه أو راجعها مرة أو قبل نقدها من الآخرين، سواءً أكان فى المنصب أو غادره، ولكنه الصادق المهدى أسطورة العلم والدين والحياة والفكر، تأمله وهو يتحدث عن بلسم حياته الذى يلخصه فى أمرين «بلسم الحياة: الإيمان بالله وبما فى سورة الجن (فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْساً وَلَا رَهَقاً) والثانى حب الناس: فإن نفساً لم يشرق الحب فيها هى نفس لم تدر ما معناها، صحيح بعضنا أحس نحوى فى المرض بالشماتة، ولكن والله ما غمرنى من محبة لا يجارى، وقديماً قيل: ألسنة الخلق أقلام الحق».
بعد هذه الرسالة الفريدة الرائعة التى نشرها الصادق المهدى والذى له حظ كبير من اسمه حرمته وحرمتنا الكورونا من الاستمتاع بكلماته التى يصوغها بأحرف من نور، وإنى لأرجو من الجميع أن يتأمل هذه الرسالة الخاتمة للرجل والتى تمثل كلمته النهائية التى ودّع بها محبيه والدنيا كلها وجمع فيها رغم اختصارها أعظم المعانى الإنسانية والدينية، عُرف المهدى بالحكمة والكياسة السياسية والمقاربة مع الجميع حتى لُقب بـ«حكيم الأمة»، وكانت له كاريزما دينية وسياسية وإنسانية فريدة، رغم أنه لم ينجح كرئيس وزراء خلال فترتى حكمه القصيرتين، فهو أقرب أن يكون مفكراً وحكيماً وزعيماً شعبياً من كونه حاكماً. قاد المهدى المعارضة الشعبية ضد الجنرالين عبود والنميرى حتى أسقطهما، فلما تولى الحكم لم يستطع تحويل معظم أفكاره الاجتماعية والسياسية والديمقراطية إلى أرض الواقع، وذلك رغم توفر الظروف الملائمة والسند الشعبى له، صدق غسان شربل فى كلمته: «انتظر الصادق المهدى الديمقراطية طويلاً وحين جاءت شارك فى إضاعتها».
لقد تابعت مسيرة الصادق لسنوات طويلة وتأملته كثيراً، كنت أشعر بطيبة قلبه ومحبته للدين والوطن ومحبته الجارفة لمصر، فقد تعلم فى كلية فيكتوريا بالإسكندرية، شعرت أنه ليس من أهل السلطة، إنه نموذج فريد للمصلح وليس الحاكم، إنه يعشق الديمقراطية فى بلاد العرب التى تعصف بالحاكم الديمقراطى رغم انتظارها الطويل له، كنت أراه دوماً جامعاً بين أمور لم تجتمع لأحد، منها قوة الفكر وصلابة التدين وعمق التصوف ومحبة الناس وعشق الدين والوطن والإيمان الحقيقى بالديمقراطية والتجديد، أزمة أى حاكم ديمقراطى يأتى بعد ثورة شعبية أنه يأتى والدنيا كلها فى حالة فوضى لا تريد الانتظام وتظن أن الانضباط والسير بمنهج الدولة هو نقض للثورة حتى يضج الناس من الفوضى ولا يجد إلا الدكتاتورية لتضبط هذه الفوضى العارمة التى تعطل الحياة، وهكذا حدث مع الصادق المهدى، إنه مفكر وحكيم وقائد شعبى وليس حاكماً، ثار على حاكمين، وضعفه ووهنه فى الحكم جاء باثنين أسوأ منهما، الصادق المهدى رغم كل الإغراءات فى حياته ظل شريفاً نظيفاً جامعاً فى قلبه وروحه بين خلوة العباسية وكتاب الجزيرة مع جامعتى أكسفورد والخرطوم ودروس الشيخ الطيب السراج، كل ذلك كوَّن هذه الشخصية العبقرية العظيمة، سلام على روح الصادق المهدى الذى ما تعامل معه أحد إلا وأحبه.