عملية اغتيال محسن فخرى زادة، رئيس منظمة البحث والابتكار بوزارة الدفاع الإيرانية، ليست العملية الأولى لتصفية علماء إيران العاملين على مشروعها النووى، لكنها ربما تمثل أخطرها وأكثرها تأثيراً على البرنامج المراوغ، الذى لم يتمكن المجتمع الدولى، ممثلاً فى «الوكالة الدولية للطاقة الذرية»، من وضع كلمة الفصل إزاءه. فى ظل اتهامات لم تهدأ حول اتجاهه إلى تجاوز محددات إنتاج الطاقة، إلى الوصول به إلى مفهوم العسكرة، من خلال عبوره العتبات غير المقدسة بإنتاج الرؤوس النووية، رغماً عن ملاحقة البرنامج التى لم تهدأ قبل توقيع طهران على الاتفاق مع الدول الكبرى وبعده.
نشرت مجلة «فورين بوليسى» الأمريكية الشهيرة فى عام 2013 قائمة لأقوى (500 شخصية) فى العالم، ضمت خمس شخصيات إيرانية منها المرشد الأعلى على خامنئى، والقائد السابق للحرس الثورى محمد على جعفرى، وجاء فخرى زادة واحداً من هؤلاء الخمسة. حيث اعتبرته المجلة حينها بمثابة الأب لبرنامج إيران النووى العسكرى، وقت شغله حينها لمنصب رئيس المشروع (111) الذى أنشأته إيران بغرض إنتاج الصواريخ القادرة على حمل رؤوس نووية، وهو المشروع الذى حمل «زادة» لأن يصبح فعلياً، كما سمته الـ«صنداى تايمز» البريطانية، الصندوق الأسود لخطوات تنفيذ المشروع النووى العسكرى، ليصير نسخة إيرانية للعالم النووى الباكستانى عبدالقدير خان. بعدها بدأ مصطلح «برنامج عماد» يظهر فى عديد من التقارير الاستخباراتية، الذى كان يشار إليه باعتباره الأرشيف السرى للمشروع النووى الإيرانى، وهو ما استعرض منه رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو، بعض الوثائق فى مؤتمره الشهير الذى عُقد فى العام 2018 بوزارة الدفاع الإسرائيلية بتل أبيب، الذى ذكر فيه أن إيران كذبت بشأن عدم سعيها إلى امتلاك أسلحة نووية، وأن طهران واصلت الحفاظ على خبراتها المتعلقة بالأسلحة النووية، بل إنها عززت تلك الخبرات بعد توقيع اتفاق 2015.
كشف هذا المؤتمر حينها أن إسرائيل تمكنت من سرقة الأرشيف السرى الإيرانى، فى أكبر عملية اختراق لم تعلق عليها طهران، سوى اتهام إسرائيل بالكذب رغم العدد الهائل الذى عرضه «نتنياهو» فى أداء مسرحى، ظل الغالبية حينها أقرب إلى تصديق أنه يضع يديه على ما يقارب نصف الطن من الوثائق، حينما حدد أنها موزعة على (55 ألف صفحة) و(183 قرصاً صلباً). حينها ذكر رئيس الوزراء الإسرائيلى أنها تكشف تفاصيل مشروع «عماد»، الذى يهدف، وفق تلك الوثائق، إلى إنتاج خمسة رؤوس نووية، تبلغ قوة كل منها ما يعادل (10 أطنان) من مادة «تى إن تى» شديدة الانفجار. تعهد «نتنياهو» أن يقوم بتسليم نسخة من تلك الوثائق إلى الولايات المتحدة الأمريكية، فضلاً عن تقديم نسخة أخرى للوكالة الدولية للطاقة الذرية، كى تتأكد من صحة ما لدى الدولة الإسرائيلية. لم يغير هذا المؤتمر من مواقف الأطراف المعنية، فالجميع ظل على قناعاته السابقة عليه، بما فيها الوكالة الدولية للطاقة الذرية التى جاء تقييمها على نحو أنها «لا تملك أى مؤشر له مصداقية عن أنشطة تجرى فى إيران، على ارتباط بتطوير قنبلة نووية فيما بعد العام 2009»!
لكن ظل المسكوت عنه من الجميع أيضاً، ومن طهران بالخصوص، أن هناك عملية اختراق فادحة قد وقعت، وهناك عملية نقل لأرشيف له علاقة بتشغيل وتفاصيل النشاط النووى الإيرانى. حيث مثّل هذا الأمر انكشافاً أمنياً بالغ الدلالة تعزز لاحقاً، عبر عدد من عمليات الاغتيال التى نفذها «الموساد» مباشرة أو عبر عملاء بالداخل الإيرانى، بحق عدد من علماء إيران والباحثين النوويين العاملين بالمنشآت ذات الصلة. وقد اشتهرت طريقة اغتيال بعد تعدد تلك العمليات، كانت تتم عبر استقلال منفذيها دراجات نارية تقترب من السيارات الخاصة للمستهدفين، حيث يجرى لصق عبوة ناسفة بأسفلها، ومن ثم يجرى تفجيرها عن بُعد فور التأكد من وجود الشخص المقصود بداخلها. هذه المرة مع «فخرى زادة»، الذى وصف بالصيد الثمين، استهدفت سيارته عبر تفجير سيارة نيسان محملة بالمتفجرات كانت تمر بمحاذاة سيارة زادة، فضلاً عن مجموعة أخرى كانت مكلفة بإطلاق النيران عليه للتأكد من وفاته، وهى المجموعة التى اشتبك معها حرس زادة الشخصى دون أن يتمكن من الوصول إليهم. ولاحقاً ذكر محققو «الحرس الثورى»، الذين هرعوا إلى مكان الاغتيال، أن بصمات وآثار تنظيم «مجاهدى خلق» المعارض حاضرة فى واقعة اغتيال زادة، وإن كان حجم مشاركتهم للجانب الإسرائيلى المتهم الأول بتنفيذ الاغتيال لم يفصح عنه بعد، رغم التوعد الغاضب الذى جاء على ألسنة جميع القيادات الإيرانية الحانقة.
هناك من يرى أن الجانب الإيرانى قد يكون أكثر تصميماً هذه المرة على إيذاء إسرائيل بطريقة مؤلمة ومدوية بقدر حجم الوجع الإيرانى، المرتبط بالطبع بمقتل هذه الشخصية المؤثرة، لكنه أيضاً له جانب أهم له علاقة بترميم التأثير النفسى داخل إيران لهذا الاغتيال، خاصة وهو يفتح جروح العمليات السابقة التى ينسبونها إلى الجهاز الإسرائيلى «الموساد». فتقويض هيبة النظام من الخطوط الحمراء لمشروع الهيمنة الإيرانى، الذى لم يفق بعد من عملية اغتيال «قاسم سليمانى» فى بغداد، التى أشعلت العراق وأربكت حسابات عديدة تظل مختلطة جميعها حتى الآن. لذلك تواجه معادلة الردع الاستراتيجى الإيرانية اليوم اختباراً صعباً، ما بين الرد المتعجل الذى يدخلها لا محالة فى سجال الرد الإسرائيلى المفتوح، وهو خيار أبعد من قدرة طهران على احتماله الآن على الأقل، وبين تأجيل المواجهة لزمان وأمكنة لاحقة عبر وكلائها وباتجاه حلفاء افتراضيين لإسرائيل، تراهم هى أقرب وأسهل لإيذائهم ظناً أن ذلك يحمل طعماً ما للانتقام. لكن هذه المرة تبدو طهران أمام كلا الخيارين سجينة العجز وعدم القدرة على شفاء الغليل الذى يعتمل بداخلها رغم اصطناع التماسك. ولهذا تظل أصوات قرع طبول العاصفة حاضرة، فانفلات واحد غير محسوب قد يكون إيذاناً بهبوب عنيف لا يدرك أحد أبعاد ارتداداته الغامضة.