نحن أمة نتكيف ونتعايش ونتصالح مع همومنا ومشاكلنا وأوجاعنا، ندمنها ونألفها ولا نغادرها ولا تغادرنا، ويترسخ ويتشبث ويتثبت كل منا بالآخر، ولا نردها رداً علمياً مانعاً، ولا نبحث عن حلول نهائية لها، ويصعب علينا أن نعيدها نشأتها ومنبعها مخافة الفراق والوداع، نشكو التعدى على الأراضى الزراعية، وانكماش وتقلص مساحة الأرض التى نأكل من خيراتها منذ عشرات السنين، ولم تتقدم الدولة بحل علمى جذرى، يراعى فيه احتياجات الناس فى مسكن آمن، خصوصاً فى الريف الذى يفتقر إلى ظهير صحراوى، فيضطر للبناء على أرضه الزراعية، وبين الحاجة إلى زيادة المحاصيل والرقعة الزراعية لمواجهة الزحف السكانى. نصرخ سنوات وسنوات من الإسراف فى التناسل والتكاثر والإنجاب خصوصاً عند الطبقات الفقيرة، وما زلنا نترك المشايخ على المنابر يدعون هؤلاء الفقراء إلى التكاثر بحديث غير صحيح عن النبى ولا نكذبه ولا نرفضه، ولا نحاسب بالقانون كل من ساعد على زواج القاصرات، ومن سهّل الزواج من مأذون أو محامٍ ومن كان طرفاً فى العقد من ولى وزوج. نصرخ من طول الإجراءات الحكومية والفساد الذى يلازمها، ولم يتقدم أحد بتطوير الأداء داخل هذه المنظومات، وما زلنا نقف طوابير طويلة أمام شبابيك الشهر العقارى وتراخيص السيارات والتصالح فى الأحياء، وشركات المياه والكهرباء والغاز، منذ نصف قرن، ولم يتقدم مسئول ببرنامج علمى يرفع عن الناس هذا الجهد وهذا الفساد. نشكو من أعمال الحفر بعد الرصف مرات ومرات، وما زال الهدم مستمراً، وما زالت تمتد معاول الهدم تهدم وتدمر ما بنيناه بحجة تمديد مواسير الغاز أو خطوط التليفونات، ولم يتقدم أحد بدراسة علمية، ولم يسأل أحدهم نفسه كيف يدير العالم هذه المنظومة بدقة دون تخريب؟ حتى وصل الخراب إلى المدن الجديدة، فهرمت وشاخت قبل الأوان كمدينة السادس من أكتوبر والبقية تأتى.
وحلت بنا كارثة التوك توك منذ سنوات، وفتحنا باب الاستيراد على البحرى، وحصلنا الجمارك بالمليارات، وأقمنا مصانع التجميع والورش اللازمة للإصلاح والصيانة، ودخل ملعب هذه الحرفة الملايين، وسددوا الضرائب اللازمة منهم والمخالفات والمصالحات بالمليارات وزيادة، وتركنا المشكلة تتفاقم وتتضخم وتتوغل، ولا نمل من الشكوى دون حل علمى مجتمعى لهذه المشكلة المدمرة للأخلاق والقيم والتعليم والحرف والمهن المختلفة.
ولكى نتعرف على حجم المشكلة عند حدود علمى المتواضع من زاوية واحدة، تبدأ أولاً: من بداية السير دون ترخيص أو لوح معدنية، وغياب المساءلة والمتابعة والرصد، فخالفوا النظام والقانون، وخرجوا عن الأعراف والقيم والأخلاق، وانتشرت تجارة المخدرات والممنوعات وتفشت ظاهرة خطف الأطفال، والمخالفات الأخلاقية، بنسبة ليست قليلة، إلا من رحم ربى منهم، لكنها مزعجة وتهدد أمن المجتمع وسلامته، الثانية: تسرب التلاميذ من المدارس للعمل على التوك توك، لسهولة قيادته دون رخصة من ناحية، والأخرى أن خطوط السير عادة بعيدة عن ملاحقة رجال المرور وتتبعهم، وهى كارثة تزيد معدلات الأمية والجهل والبطالة، وتحرض على عمالة الأطفال، إلى جانب زيادة معدلات الجريمة والانحرافات المختلفة، وتناول المخدرات والعقاقير المدمرة للصحة والخطف والاغتصاب والتحرش، وتضعف البنية الاقتصادية للمجتمع. ثالثاً: تخلى وهجر الكثير من أصحاب المهن والحرف عن حرفتهم المطلوبة وانضمامهم إلى فريق العمل على التوك توك لسهولة العمل عليه، وما يجنيه من ربح سريع، وما يلاقيه أحياناً من ربح الصدفة والتسهيل وهو وفير، هذا العزوف يهدد التركيبة المجتمعية والتوازن المهنى، بل ويدفع المجتمع إلى خلل مهنى خطير، ويهدد السوق بندرة بعض الحرف وانحدار مستواها.
المجتمعات لا يتم بناؤها دفعة واحدة، والمشاكل المجتمعية كلها نسيج واحد ومرتبط بعضها ببعض، فلا تظن أنه لا علاقة بالتوك توك وزيادة النسل والجهل والأمية، أقول لك ليس صحيحاً فهروب التلميذ من المدرسة للعمل عليه، وإهمال للتعليم وهو صغير، يزيد معدل الجهل والأمية، ويعتبر سبباً مباشراً فى زواج الصغيرات دون السن القانونية فى الريف، ومن ثم زيادة معدلات النسل والإنجاب من ناحية أخرى. وهناك علاقة وطيدة بين زيادة معدلات تعاطى المخدرات وزيادة نسبة التحرش عند الصغار والذين يتربحون من التوك توك دون رقابة أسرية، وهى مستحيلة لدى تلك الأسر التى تعتبرها رجولة مبكرة وربما لا تقدر على المساءلة أو الرقابة والتقويم. نحن نحتاج إلى التعامل مع تفصيلات ومفردات المشكلة مهما كانت صغيرة وتتبعها ورصدها وجمع تفاصيلها ومفرداتها ومعطياتها كاملة، ثم طرحها على مائدة البحث العلمى المحايد المؤيد منه والمعارض، ومناقشة أصحاب المشكلة أنفسهم ثم إصدار القرارات الملزمة لكافة المصالح وإقرارها، أما ترك المشكلة وتأجيلها دون حل سنوات وسنوات، تألفها النفوس وتعتادها، فتتضخم وتتوحش وتصبح مكتسبات وحقوقاً للبعض يصعب الخروج منها أو التصالح معها.