إن مصر تحمل على أكتافها ميراثاً طويلاً من الهموم التى تعيق نهضتها بعد عصور طويلة من الاستبداد والفساد، وتجد أمامها عقبات كبرى تحول دون انطلاقها، عقبات حملتها معها من الماضى، وعقبات فرضتها عليها القوى الاستعمارية القديمة الجديدة، وعقبات بسبب روح السلبية واللامبالاة عند طوائف تعتبر الحكومة هى الراعى الشامل، وعقبات بسبب الذين يعتبرون «الحكومة هى العدو»، وعقبات تسبب فيها حكامها السابقون: تارة بسبب الاستبداد، وتارة بسبب الفساد، وتارة بسبب الضعف المهنى وعدم التأهل لقيادة دولة، وتارة بسبب الغباء والجهل، وتارة بسبب الانحياز لفئة ضد الفئات الأخرى.
ومن هنا فإن رئيس مصر المنتخب تنتظره هموم كبرى. ومن وجهة نظر رجل يعيش هموم وطنه، فإنى أتصور أن هذه الهموم لا يمكن حصرها فى مقال واحد، لكن يمكن أن نشير إلى الهموم الكبار منها، وهى:
1-الديمقراطية المزيفة.
2-الفساد فى كل القطاعات: من أعلى إلى أسفل، ومن أسفل إلى أعلى.
3-انتشار الفقر بمعدلات غير مسبوقة.
4- انحراف المجتمع المدنى عن وظيفته.
5-ثقافة التواكل والبيئة التنافسية غير العادلة.
6-المركزية والبيروقراطية.
7-تغول السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية على بعضها البعض.
8-الرأسمالية المتوحشة.
9- الإرهاب.
... إلخ
وأتصور أن هناك حلولاً لهذه الهموم والتحديات، وهى حلول ذات آليات محددة، وليست شعارات رنانة. أما الديمقراطية المناسبة للحالة المصرية، فأظن أن حل مشاكل الديمقراطية لن يكون إلا بمزيد من الديمقراطية.. لكن كيف؟
سبق أن أوضحت فى أكثر من مقال أنه إذا كانت بلادنا عاشت عصوراً طوالاً من الاستبداد فى العصور القديمة، والديمقراطية المزيفة فى العصر الحديث، فإن الديمقراطية المزيفة كانت أسوأ من الاستبداد.
وإذا كان رجال السياسة والاقتصاد فى العصور السالفة قد انحرفوا بالديمقراطية، وحولوها إلى أداة للاستغلال والرأسمالية المتوحشة، فليس هذا بعيب مطلق فى الديمقراطية، بل هو عيب المنحرفين بها، وعيب فى الضمانات التى تمنع هذا الانحراف.
وإذا كانت بعض الفئات استغلت الحالة الديمقراطية بعد ثورة 25 يناير، وحولتها إلى فوضى وتجاوز لكل الحدود، فليس هذا بعيب أيضاً فى الديمقراطية، بل عيب فى هؤلاء الذين لم يمارسوا الديمقراطية بأساليب ديمقراطية، وإنما بأساليب الغوغاء غير المؤهلين والذين يبحثون عن دور ومكسب فى المشهد المحكوم بحالة من السيولة المفرطة. وإذا كانت فئات أخرى استغلت الديمقراطية لتفصلها على هواها وتحولها إلى «مطية» للوصول إلى الحكم، وأداة لسيطرة قطيع ماسونى يُقصى كل الفئات الأخرى متعالياً عليها ومكفراً لها؛ فليس أيضاً هذا بعيب فى الديمقراطية؛ وإنما عيب فى الذين يحكمهم مبدأ الغاية تبرر الوسيلة، ويا ليت الغاية هى الوطن، فهم لا يعرفون معناه، ولا ينتمون إلا لأنفسهم!
ينبغى، إذن، إعادة تنصيب الديمقراطية وفق ضوابط وقواعد تنظم عملها، فالديمقراطية فى كل بلاد العالم يحددها الدستور والقانون، ولا أحد يمكن أن يعرض بلاده لخطر الحرب الأهلية بحجة الديمقراطية. إن الديمقراطية مثلها مثل أية لعبة محكومة بقواعد يجب أن يلتزم بها جميع الأطراف، ولا يجوز لأى طرف أن يطالب بكل الحقوق وهو لا يلتزم بأية واجبات.
إن العمل الديمقراطى ليس نسخة واحدة فى كل البلدان، بل لكل بلد طبعته الخاصة منها، فلا يقل لى أحد إن ديمقراطية الولايات المتحدة الأمريكية مثل ديمقراطية الصين، ولا يقل لى أيضاً أن نظام الحكم فى فرنسا مطابق لنظام الحكم فى بريطانيا أو ألمانيا أو هولندا.
من هنا فلابد أن يكون لمصر طبعتها الخاصة التى تلائم الظرف التاريخى الذى تمر به، وتتناسب مع تحديات المرحلة.
ولذا ينبغى أن تقوم الديمقراطية المصرية الوليدة بإصلاح وتجديد نفسها باستمرار، وتطوير آلياتها بتطور وتغير واختلاف الظروف والتوسع فى الضمانات والقواعد التى تضمن تحقيق العملية الديمقراطية للمصلحة الوطنية بعيداً عن شبح الحرب الأهلية.
إن حل مشاكل الديمقراطية لا يكون إلا بمزيد من الديمقراطية، و«المزيد من الديمقراطية» لا يعنى مزيداً من الفوضى، بل يعنى وضع الضوابط والضمانات التى تساعد على العمل الديمقراطى دون التفريط فى هيبة الدولة ودون الوقوع فى حالة جديدة من السيولة والنزاع والتشاجر، ودون التفريط فى حقوق الإنسان. وهذا معناه سيادة القانون والصرامة فى تنفيذه على الجميع بمعيار واحد هو المصلحة الوطنية، فلا ديمقراطية بلا قانون، ولا حرية بدون سلامة الوطن والحفاظ عليه، وحرية ركاب السفينة تقف عند حدود عدم الإضرار بها أو بالآخرين، وحرية اللاعب فى الملعب مقيدة بقوانين اللعبة، وحرية الرأى معناها أن تقول رأيك وتدافع عنه -وفق أدبيات الديمقراطية- حتى يثبت صوابه أو خطؤه، لا أن تفرضه على الآخرين بواسطة «الإرهاب» باعتبارك مالك الحقيقة المطلقة!