هذا السؤال ليس متاحاً أو مسموحاً به سوى فى بلادنا دون بلدان العالم، وليس له إجابة شافية ومانعة ومحصنة أو وزن أو قيمة سوى فى بلادنا أيضاً، ولا ترى فى بلاد الدنيا هذه العلامات والرموز المفرقة لخلق الله، والعنصرية والانفصالية فى نفس الوقت على السيارات والبيوت والمكاتب ليس لهدف أو لمصلحة عامة، اللهم للاستعلاء على خلق الله وتمييزهم على بقية مخلوقاته إلا فى بلادنا أيضاً، خارجون على القانون، الذى يقف على استحياء من اختراقه، عاجزاً عن التعامل مع هؤلاء المحظوظين، فهذه علامة الجهات القضائية العليا، وهذا نسر، وذاك هلال دون صليب، وهذا جاكيت البدلة الميرى معلق على زجاج السيارة مسافر مع صاحبه، وهذه سيارة السيد الموقر على الناصية بدون نمر تنتظر سعادة الباشا، وأخرى بجوارها تخفى ما بداخلها تماماً باللون الأسود، ورابعة تقودها منتقبة لا تعرف لها وصفاً أو نوعاً أو جنساً، وهذا يقود سيارته وعلى حجره طفل صغير أو رضيع، وهذا يسير عكس الاتجاه.. وهلم جرّاً، هنا فى بلادنا ترى كل التجاوزات والاختراقات والمحسوبيات والعجائب واضحة صريحة بين كل الطبقات، تتباهى وتتفرعن فيما بينها فى تحدٍّ ظاهر ومكشوف، ومنافسة كمنافسة الديوك الشرسة أو مصارعة الثيران أو تناطح التيوس. وانت مش عارف أنا مين؟ أنت يا سيدى المحسوبية والفساد والفوضى والرشوة واستغلال النفوذ وتجاوز القانون.
ليس هذا بمناسبة ما حدث فى محكمة مصر الجديدة بين ضابط شرطة ومستشارة فى النيابة الإدارية فقط، فمصرنا الغالية يطفح إناؤها بكل صور الاستعلاء والاستكبار وتجاوز القانون من الصغار والكبار، فهذا الموقف فى ذاته صراع مناصب، ومصارعة نفوذ، وتفاخر وتنابز بالألقاب بين أصحاب النصيب والحظوة، واستئثار بالمناصب وتوريثها كميراث المال والعقار والطين، غِنى من نوع جديد وثراء ليس له مبرر سوى اعتداء واضح على حقوق الغير وحرمانهم من فرص كان من حقهم المنافسة فيها بشرف وأمانة، حتى أضحى المجتمع راضخاً لمبدأ توريث المناصب والنفوذ، فلا تبتئسوا كثيراً فليس هذا نصيبكم أو حظكم أو ضدكم، سيعودون قريباً سمناً على عسل، ويطفح العسل، وتبقى المرارة فى حلق البسطاء يبكون..
نحن فى مأزق، وفى حالة تسيُّب وفوضى واستهتار، البناء على قدم وساق فى مربع واتجاه، والانهيار فى اتجاه ومربع آخر، الثبات والمثابرة فى معركة ضد الإرهاب، والتسيب والانحلال فى الشوارع والأزقة، القانون مهان، والدولة منهكة، فلا قدرة لها على مواجهة هذا السيل من الاختراقات والتجاوزات والفوضى والمخالفات فى كل ركن وزاوية وحارة وميدان فى البلاد، حتى بين الكبار أمثال حادث محكمة مصر الجديدة، ضابط ملتزم بالقانون وربما تجاوَز، ومستشارة تعلم يقيناً أنها أوْلى الناس بالانضباط والالتزام، فهؤلاء هم أكثر الناس التزاماً بالقانون، وأكثرهم عقوبة إذا خالفوه، انت عارف انت بتكلم مين؟ أنتم مخالفون جميعاً للقانون، أصحاب الخطوة والحظوة وعامة الناس، فهم مخترقوه على عين كل التجار، وأنت تخالف خلف العيون والأسوار، كلنا هى وكلنا هو، ومن يبكى منكم على إهدار القانون منهما، فابكِ أولاً على إهدار القانون والاعتداء عليه من حضرتك صباح مساء، ولا داعى للبكاء على اللبن المسكوب فقد سكبناه جميعاً ويستحق منا جميعاً البكاء.
هذه صورة من صور الفساد، فى التعيين والتوظيف والترقى والتعليم، وتجاوز هؤلاء أنفسهم للقانون، لو كان الاثنان قد التزاما به فى حياتهما لما تجاوزاه حين تقابلا واحتدا على بعضهما البعض، ولو كان القانون حاضراً فى حياتهما ما عبراه وما تجاوزاه، ولو كان حاضراً بينهما فاصلاً بين حدودهما والناس، لكان قائماً إذا ما احتد النقاش وتجاوز الحوار بينهما، إلا أن هؤلاء القوم ما تاقت نفوسهم إلى هذه المناصب العليا، وحاربوا من أجلها، إلا لحبهم فى التمييز عن خلق الله وتجاوز الناس واعتلاء القانون، يقولون «الطبع غلاب».
أرى والله أعلم سنظل على هذا الاستعلاء فى بلادنا وهذا التمييز وهذه الطبقية المتنمرة طالما كانت المناصب إرثاً يورث، وحكراً لا يتحرر، فما انحدرت المهن والوظائف إلا بتوريثها وحجز أماكنها للأولاد والمحاسيب وأصحاب النصيب، على حساب العلم والكفاءة، واقتناص فرص الغير، وحرمان أصحاب الكفاءات والمتفوقين من المنافسة والاختيار الحر الشريف لها، فى كل المجالات دون خجل، ودون حسيب أو رقيب، ولو دخلت كل بيت لوجدته عامراً بالشكوى من ضياع الفرصة المناسبة لأحد أفراده لصالح هؤلاء القوم، فحرموه من المنافسة الشريفة وتكافؤ الفرص بينه وبين غيره، عند القضاء على هذه الظاهرة تنطلق الكفاءة والخبرة، ويحترم أصحاب الشأن القانون، وهو الذى احترم كفاءتهم وعلمهم وحقهم على الغير صباح مساء، وفضَّلهم على غيرهم تفضيلاً، وعندها لن تجد تجاوزاً ولن ترى خناقة فى محكمة مصر الجديدة أو فى أقسام الشرطة.