حرية الخيال

«لا عقوبة على خيال» ليست عبارة إنشائية، ولكن منطوق حكم قضائى، أصدره المستشار أحمد سميح الريحانى فى 26/4/2012 فى قضية اتهام الفنان عادل إمام بازدراء الأديان.. حيثيات الحكم بالبراءة، وثيقة تاريخية، تأكدت فيها وبها قيم القضاء المصرى واستقلاليته.. وهو ما تجدد أيضاً هذا الأسبوع، حيث أصدرت محكمة جنح مستأنف الجيزة مرة أخرى، الحكم ببراءة الفنان عادل إمام، من تهمه ازدراء الأديان، وكانت حيثيات الحكم أن «المتهم لم يرتكب أى جريمة فعلياً فى تلك المشاهد، ولم يزدرِ الدين الإسلامى، ولا أى دين آخر، وإنما أظهرت أعماله الجانب السلبى لبعض الأنماط المتشددة، التى ترتكب سلوكيات يرفضها المجتمع كله». حكمان بالبراءة هما امتداد لتاريخ طويل من الوعى، والانتصار للعقل والحرية، امتداد لما اعتبره الشاعر اللبنانى عباس بيضون وثائق الإصلاح الدينى، امتداد لكل المشاريع الإصلاحية الحديثة من الشيخ محمد عبده، إلى الشيخ الأفغانى، ومن رشيد رضا إلى قاسم أمين، إلى اجتهادات نصر أبوزيد.. وامتداد أيضاً للعقل المستنير وللقيم والتقاليد القضائية التى دافع وعبر عنها محمد نور رئيس النيابة العامة، الذى حفظ التحقيق مع طه حسين فى قضية كتاب (فى الشعر الجاهلى) عام 1926 برغم اختلافه مع أفكار الكتاب، ومع طه حسين نفسه، نافياً عنه الاتهام بالكفر، ومؤكداً أن الكتاب «بحث علمى وموضوعى، لا تعارض بينه وبين الدين، ولا اعتراض لنا عليه» وهنا تكمن عظمة ذلك العقل المستنير. أهم ما فى هذه الأحكام القضائية، من طه حسين إلى عادل إمام، الأدق من محمد نور إلى سميح الريحانى، ليس الحكم ببراءة الفنان أو الكاتب، ولكن ما تؤسسه هذه الأحكام من منهج، ومن قراءة جديدة وعصرية، تقوم على ضرورة قراءة النص انطلاقاً من الراهن، وضرورة التمييز بين المقدس وغير المقدس، والتميز بين الظرفى والثابت فى النص الدينى نفسه. فى مسرحية «طقوس التحولات والإشارات» لسعد الله ونوس، فى إيوان الاستقبال فى بيت نقيب الأشراف، يدور الحوار بين مفتى الديار السورية بالقرن 19 وبين مؤمنة زوجة نقيب الأشراف. مؤمنة: والزوجة كانت سجينة بالبيت تقرأ حكايات من «ألف ليلة وليلة» وتسرح مع غمام الربيع، هل قرأت «ألف ليلة وليلة» ياشيخ؟ المفتى: ما هذه بالكتب التى يحتاجها الرجل العالم. مؤمنة: تطرى قراءتها علمك الجاف. المفتى: أترين أن علم الدين جاف يا مؤمنة!! خيال «ألف ليلة وليلة» يجابه سلطة رجل الدين بالمسرحية، الخيال عموماً أحد أسلحة المجابهة لكل السلطات والقيود، يفتح النوافذ، ويهز سكون الثابت والجامد، ابتكار لحرية بديلة، وطاقة دافعة لمواصلة الحياة. وحين ينتصر القضاء المصرى يوماً بعد يوم للخيال، للفكر، وللفن، والإبداع، يمكننا أن نتنفس الكثير من الهواء، ونحلم بمستقبل أفضل.