تدور القوى السياسية فى مصر منذ سنوات فى دائرة مغلقة تعود فيها كل مرة إلى النقطة نفسها. تلك الحالة تذكرنا بحالة «سيزيف» أحد أكثر الشخصيات جشعاً وخداعاً فى الأساطير اليونانية القديمة، والذى يعود دائماً إلى نقطة الصفر رغم كل الجهود التى يبذلها؛ ففى الأساطير تم إجبار «سيزيف» على أن يرفع صخرة عملاقة إلى قمة جبل، وما إن يصل إلى قمته، حتى تنحدر منه الصخرة مرة أخرى وتسقط إلى أسفل عند سفح الجبل، فيعود مرة أخرى لرفعها إلى قمة الجبل، وما إن يصل إلى قمته حتى تنحدر مرة أخرى لأسفل، ويظل هكذا إلى الأبد. ويعتبر «سيزيف» رمزاً لمن يقوم بمهمة لا تنتهى ولا جدوى منها، وهو يعود ليكافح كفاحاً مريراً للوصول إلى القمة مع أن النهاية دوماً تكلل بالفشل.
هذا هو حال القوى السياسية فى مصر منذ ثورة يناير الأسطورية، ففى البداية كان إسقاط مبارك، وبدأنا بالتصويت على بعض مواد دستور 71 فى «غزوة الصناديق» التى حارب فيها المؤمنون كفار قريش وانتهت بهزيمة الكفار! ثم كأن التصويت لم يكن بموافقة من جماعات الضغط، وربما بطلب منها، وتم إصدار إعلان دستورى يشتمل على مواد تحقق مصالح تلك الجماعات وتفصّل الخطوات المقبلة على مقاسها حتى تقتنص حكم مصر! وكان الإلغاء هو نهاية ذلك الإعلان الدستورى. كما تم تكوين برلمان منتخب، ثم صدر قرار بحله، ثم قرار بعودته، ثم حكم بعدم دستورية عودته.
وأيضاً قام «سيزيف» بتكوين الجمعية التأسيسية للدستور، ثم حلها، ثم أعاد تكوينها، فوضعت دستوراً يحقق فقط مصلحة طائفة ويفرض رؤيتها على الجميع فى مسلسل إقصائى بشع أخاف كل القوى الأخرى وأخاف الدول الصديقة وأخاف مؤسسات الدولة. وقام الرئيس المعزول بإصدار إعلانات دستورية قسمت الشعب المصرى إلى جبهتين متناحرتين، ثم عدلها أو ألغاها (حسب وجهة نظرك)!
ولم تكن حالة «سيزيف» مع رئيس الجمهورية إلا الحالة الصفرية نفسها: إسقاط رئيس طال عليه الأمد، ثم تسليم السلطة إلى المجلس العسكرى، ثم المناداة بإسقاطه، ثم تنصيب رئيس جديد للجمهورية، ثم الثورة عليه، ولم يختلف رد فعل الرئيس المعزول عن رد فعل الرئيس المخلوع.
وما يحدث على مستوى الدولة يحدث أيضاً مع الجماعات والأحزاب السياسية: مشاكل داخلية وتناحر وإقصاء، وسعى محموم إلى السلطة، وعودة إلى حالة الأحزاب قبل 25 يناير. وعندما يصل الحزب إلى السلطة يمارس ألاعيب السلطة القديمة نفسها، وعندما يكون فى المعارضة لا يعارض بشرف، بل يهدم ويفتت ويعمل على إشغال السلطة فى معارك جانبية بعيداً عن البناء والتنمية، ولا مانع من الإرهاب والتفجير وإشعال الحرائق، لا يهم مصر ولا شعبها ولا ترابها.. المهم فقط العودة إلى «السلطة» حتى لو انهدم المعبد على الجميع وكان «الثمن» هو سوريا، لا يهم هدم الحضارة والتاريخ والبنية التحتية وتشريد النساء فى سوق النخاسة، والأطفال فى الشوارع، لا يهم.. ما يهم فقط هو السلطة.. هو الغنيمة حتى لو كانت (مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً)!
وما كان يحدث على مستوى الدولة والقوى والأحزاب السياسية، يحدث أيضاً على مستوى الشعب، فيتم رفع الإشغالات من الطرق، ثم تعود فى اليوم التالى! ويتم رصف الشوارع ثم فى اليوم التالى يتم حفرها من جديد لتوصيل كهرباء أو ماء أو غاز
والآن نبدأ من جديد برئيس منتخب من (25618672 ناخباً) حسب إحصائية جريدة «الوطن»، أى 26 مليوناً تقريبا، وهو رقم غير مسبوق. لكن هذه المرة نجد أجندة التحديات أكبر: حيث يطل الإرهاب كتحدٍّ بجوار التحديات القديمة الجديدة: الفقر، الفساد، نخبة ميكافيلية هشة غير عاقلة، تيارات إعلامية لديها قدرة عالية على التفتيت بعيداً عن روح البناء، مشاكل ممارسة الديمقراطية والحساسية المفرطة للاختلاف، البيروقراطية والروتين، ثقافة التواكل وعدم المشاركة، عدم الفصل بين السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية، تخاذل المجتمع المدنى وعدم تفعيل دور القطاع الثالث، عدم وجود بيئة تنافسية عادلة، غياب أخلاقيات التقدم، شيوع الاستثناءات والفهلوة؛ ازدواجية التعامل مع القانون: مرة إعمال حرفى للقانون، ومرة إعمال لروح القانون...! انعدام القوانين الرادعة والرقابة المالية والإدارية الفاعلة، الرشوة والمحسوبية والسمسرة الإدارية والتهرب الضريبى وإهدار أموال الدولة، مشكلة المرور المزمنة التى ستقف حجر عثرة أمام أى جهد للتنمية والاستثمار والتى تؤدى إلى هدر موارد الشعب والدولة: الوقت الضائع، الطاقة المهدرة، الصحة المستهلكة، الأعصاب المنهكة. وقبل كل هذا تحطم الجهود السابقة لإعادة بناء اقتصاد مصر على صخرة التحويل المبذر للموارد إلى النخب القديمة الفاسدة.
والتحدى الأكبر أمام الرئيس الجديد هو سقف التطلعات العالى جداً عند المصرى اليوم، والمخزون النفسى التاريخى الملىء بالرغبات الفردوسية.
لكن كيف ينجح الرئيس الجديد مع الشعب يداً بيد فى تخطى «الحالة الصفرية»؟
إنها الخطط الزمنية القابلة للتنفيذ التى تنقل الأفكار من «عالم الأمنيات» إلى «عالم الواقع». هذا هو الجسر الذى يتطلع إليه المصرى، والذى يتعين على الرئيس أن يشيده لتحويل «الأفكار» إلى «أفعال»، والذى إن نجح فيه سوف يتغير تاريخ مصر، مثلما تغير تاريخ ألمانيا وفرنسا وروسيا وأمريكا واليابان وغيرها.