على الرغم من نشأة السينما المصرية فى وقت مواكب للسينما العالمية، فإن التطور الذى حدث على المستوى الدولى لم ينعكس على السينما المصرية إبداعاً وابتكاراً فى الأدوات واللغة الفنية والرؤية، وإن كان قد انعكس عليها كنوع من التقليد المستمر، مع أنه كان المفترض أن تكون السينما المصرية قد تجاوزت مرحلة التقليد التى كانت ضرورية فى البداية؛ فالتقليد شىء إيجابى فى بداية أى عمل ناجح، لكن الاستمرار فى التقليد -بعد مرور أكثر من مائة عام- يعد علامة سلبية تدل على العجز ووقف النمو.
فالحركة التاريخية للسينما المصرية لم تخضع للتراكم أو النمو التصاعدى، أى أنها لم تنمُ مثل نمو الكائن الحى الذى يخضع لمنطق التطور، أو هى ليست مثل البناء الذى يتصاعد نحو الأعلى تدريجيا، بل ارتبطت بحركة المجتمع صعوداً وهبوطاً. والخطورة أن منطق تطور الفن غاب، وربما من أسباب ذلك أن أكثر صناع أو منتجى السينما فى الزمن الأخير ليسوا غالباً من أهل الفن!
ولم تعد السينما المصرية فى هذه الفترة المضطربة أداة للتسلية، بل أصبحت -مثل برامج التوك شو- تعبيراً عن حالة «الإثارة العامة»، وأنا لا أقصد الإثارة الجنسية بالذات، بل أقصد حالة الإثارة الفكرية والنفسية والعصبية التى أصبحت دائرة مغلقة ودوامة لا تنتهى سقط فيها الشارع وسقطت فيها منابر الرأى.
ويجب أن يكون الفن محكوماً بوعى أرقى من وعى الشارع، لكن يبدو أن هذه النظرية باتت مهددة عندنا؛ إذ صارت مقولة «هذا ما يريده الجمهور» هى المحركة لمنتجى الأفلام أو لأكثرهم. والخطورة أن السينما فى مصر -عدا القليل منها- لم تعد أداة لتوجيه المجتمع أو للارتقاء بغرائزه، مثلما كان يحدث فى الماضى فى كثير من الأفلام القديمة التى لها الفضل فى تخفيف حدة الصراع بين الطبقات والتقريب بينها، والتى كانت تحمل فى معظم الأحيان فكرة الصراع بين الخير والشر، وطبعا كانت توظفها لصالح الخير فى النهاية تأكيداً لقيم العدالة الإلهية، وهنا تلتقى مع الدين فى أسمى معانيه.
وربما كانت هذه هى الأسباب التى كانت تشعرنى بحالة من «التطهر» بعد مشاهدة أى فيلم سينمائى جيد فى اللغة والمضمون، وربما كانت هى التى تعيد إلىّ «الأمل» بعد المرور بأى حالة إحباط، وربما كانت هى السبب فى الشعور بنوع من «التوازن النفسى» الذى كان يعيدنى إلى مضمار السباق مرة أخرى بعد التعرض لظلم أو إجحاف، وربما هى التى شكلت بداخلى مع الدين والعقل «رؤية العالم» كقصة إلهية تكافح فيها قوى الخير قوى الظلام. وحتى عندما كنت أذهب إلى السينما وأنا صغير «للاستمتاع»، لم أكن أدرى أنها تشكل بداخلى مفهوم الخير والشر، ومفهوم الوطن، ومكافحة الصراع الطبقى، وإعادة تكوين الوعى بالمرأة ككائن إنسانى، وليس كأنثى للاستهلاك، وتشكيل عقيدة البطل الذى يكافح من أجل أسرته أو وطنه أو من أجل تحقيق العدالة أو تحقيق الذات ضد عالم غير منصف، وهنا وجدت الدين بوصفه رحلة كفاح فى العالم ضد «القبح» بكل أشكاله.. الدين كمفاهيم ترسخ قيم الحق والخير والجمال وتعيد إلى الإنسان «نقاءه العقلى» و«تصالحه» مع ربه ونفسه وعالمه. وهنا تكمن الوظيفة الرئيسية للفن: إعادة التصالح، وإعادة اكتشاف الذات والعالم، ثم تغييرهما إلى الأفضل؛ فالسينما لا يجب أن تعكس الواقع كالمرآة، بل يجب أن تساهم فى صنعه، وهى لا تغير فقط وعى المشاهد، بل تغير أيضاً مَنْ يصنعها فيتجاوز ذاته ويتحدى قدراته.
إن الصورة السينمائية -شئنا أم أبينا- هى أداة توجيه للسلوك والأفكار سواء بشكل مباشر أو غير مباشر؛ إنها أخطر من الكلمات المقروءة، نتيجة التأثير غير المحدود للصورة المتحركة. يقول جورج بالاندييه فى كتابه «فى الطريق إلى القرن الواحد والعشرين»: «إن الصورة مألوفة وقريبة جداً الآن؛ بحيث إنها لا تكون معروفة حقًّا! إنها تفعل فعلها، وفى معظم الأحيان يدعها كل إنسان تعمل ويعانى من آثارها». وتزداد هذه الخطورة لأن المشاهد لا يدرك تأثير الصورة الفاعل فى حياته من حيث تعديل الأفكار، والسلوكيات، والمعتقدات. وهذا ما أدركه تروتسكى فى كتابه «الثورة والحياة اليومية» قائلاً: «هذه الوسيلة التى بين أيدينا هى أفضل وسيلة للدعاية، سواء كانت هذه الدعاية تقنية، أم ثقافية، أو مناهضة للإدمان على الكحول، أو صحية، أو سياسية. إنها تيسر القيام بدعاية هى فى متناول فهم الجميع وجاذبة لاهتمام الجميع، ودعاية تستحوذ على المخيلة». ولهذا ذهب تروتسكى إلى أن السينما يمكن أن تنافس الدين فى السيطرة على جموع الشعب، فكل الأفلام -كوميدية أو مأساوية أو خيال علمى أو مطاردات وعنف أو رعب- تحمل وجهة نظر ما، تحمل فكراً محدداً، وليست خيالية كما قد يدعى البعض.
إن السينما دائما تعكس وجهة نظر ما، وتحمل فكراً راقياً أو فكراً إباحياً أو فكراً سياسياً أو اجتماعياً صائباً أو خاطئاً. فقل لى ماذا تنتج أو ماذا تشاهد، أقل لك من أنت! أما أصحاب نظرية «الفن للفن» عندنا فى مصر فهم واهمون ويعيشون خارج التاريخ، أو هم مغالطون كبار يخدعون أنفسهم ويخدعون الناس بحثاً عن تبرير لعمل غير مسئول أو زعماً للدفاع عن حرية إبداع متوهم! إنهم فقط يتحدثون عن الحرية المطلقة دون أن يمارسوا تجربة الإبداع، ودون أن تكون لديهم القدرة عليه، بل دون أن يعرفوا أن هذه الحرية تفرض عليهم واجبات، فلا توجد حرية دون مسئولية، ولا يوجد إبداع دون هدف إنسانى.