م الآخر| الفراق
تقف وحيدًا على مفترق الطرق.. و تنكس رأسك.. تنظر نظرة منكسرة على شبح يبتعد.. يلتهمه الظلام.. لا تدري هل التفت لتوديعك حقًا؟ أم أن عقلك نسج تلك الذكرى من إبداعات مخيلته حتى لا تتهم ذلك الشبح بالتقصير في الوداع، تأخذ المنعطف إلى طريق أخر، وتمضي بالمسير.. تذوب وسط الظلام.. تلقي نظرة مودعة على مفترق الطرق الذي فارقته منذ لحظات.. يساورك شك مخلوط بالأمل بعودة ذلك الشبح.. يعود مقتحمًا الظلام.. مبددًا الوحدة.. يعدُك بعدم الفراق، ويقتحم معك المجهول.
ولكن ذلك الشبح لا يظهر.. لا يأتي، بعد قليل تنشغل أنت بمحاربة الظلمات، والعقبات وحدك.. ثم تبدأ الذكريات في التلاشي، وأي محاولة لاختلاق ذكريات بديلة تهون عليك القادم، تبوء بالفشل بعد فترة، ولكن عندما تكون في أمس الحاجة للبدء من أول الطريق، تظهر الذكريات في عقلك، وتومض كمنارة في الظلام، ولكنها تشيع الألم والحزن لا الطمأنينة والدفء.
فذاكرة الإنسان غريبة، والدنيا ـ كما قيل - لا تجود لمحتاج، فعندما تحتاج الذكرى تلوذ منك بالفرار.. تفارقك، ثم تعود لتظهر مرة أخرى.. تؤرق منامك، وتقلق مضجعك، فالفراق سنة الحياة، فلا شيء باقٍ إلا الله، ولكن تتعدد أنواع الفراق؛ فالأصدقاء يفترقون، والأحبة يفترقون، والعائلة تفترق أيضًا؛ حتى الأفكار تفارقك، فتشعر بخواء عقلك، وعجزك عن التفكير، ولا يتبقى لك إلا رائحة الذكريات التي تتبدد بفعل الروائح القوية المتداخلة في معركة الحياة.. عرق ودماء.. كفاح مستمر، وصراع من أجل التميز والبقاء.. يحول القلوب لحجارة، ولكن من ليس له ماضٍ ليس له مستقبل، فالذكريات مهمة بكل تأكيد، وهي سلعة غالية يجب الحفاظ عليها.
ولكن.. من المُلام؟ فإما أن يكون الفراق بإرادتنا، أو لظروف قهرية، فيفترق الأصدقاء في حالة دخولهم كليات مختلفة أو مدارس مختلفة، أو في حالة تغيير محل السكن يفترقون لاختلاف وجهات النظر؛ حتى لو كانت سياسة في عصرنا هذا.
يفترق الأحبة؛ بسبب مشكلات كبرت أو صغرت.. مشاكل مادية، واختلافات في الشخصية.. تباين متطلبات.. خيانة و غدر، أو يحسبونها كذلك منهم من يستحق الهجر، ومنهم من لا يستحق، وكان ضحية ظلم، يفرقنا الموت.. تفرقنا المسافات.. تفرقنا المشاغل والأقدار، تفرقنا أمواج بحر الحياة المضطربة، ويجمعنا الأمل، وبصمة روحنا البشرية، فلا تظلم الناس، وتلمس الأعذار؛ فلكل سببه، ولسنا محيطين بالأقدار.